عبد الحليم فضل الله يقف الجميع حائرين أمام الأزمة الاقتصادية العالمية، يستوي في ذلك الرأي العام مع المضاربين، كهنة السوق مع معارضيهم من أتباع التعاليم الصارمة. لقد هوت الأسواق على رؤوس المؤمنين بعصمة قوانينها، فأصابت غرور الرأسمالية في الصميم، لكن شظاياها مست رؤوس خصومها، فهؤلاء رفضوا هيمنتها وبشّروا طوال الوقت بتعثرها، غير أنهم فضّلوا إثر الأزمة، استذكار حججهم التقليدية على التماس إجابات جديدة تقارع الفراغ الإيديولوجي القادم.
ويمكن التوجه إلى أنصار النيوليبرالية ومناوئيها بالتوصية نفسها: إن نقد الوضع الذي أنتج الأزمة يجب أن يكون جذرياً وحذراً في آن معاً، وليكن الهدف في الحالتين فتح فضاء معرفي جديد، لا استعادة الاستقطاب الإيديولوجي السابق، أو منح الرأسمالية فرصة أن تظل خياراً أبدياً ووحيداً. إن ذلك يرفض من جهة محاولة استنساخ البدائل من خلايا النسيج المصاب نفسه، أي من داخل النموذج السائد والمأزوم، ويتنافى من جهة ثانية مع المبالغة في التأويل، طمعاً بإحياء النظريات الكبرى التي لم يعد ممكناً ولا مفيداً إحياؤها، بعدما اندثر رحمها التاريخي، ولم يبق صالحاً منها سوى ابتكاراتها المنهجيّة الخلاقة وقدرتها البارعة على الوصف.
لقد فضحت الليبرالية نفسها، وصار واجباً طيّ صفحتها البائسة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو: هل المطلوب وضع أجندة عالمية جديدة، يشترك في صوغها أطراف من مشارب مختلفة، يقرب في ما بينهم إسهامهم بهذه الطريقة أو تلك بإيقاف الزحف السياسي والاقتصادي لليبراليات الجديدة، أم أن الاكتفاء بمثل هذه الأجندة، سيتيح للنموذج المصاب تنشيط نفسه وترميم شرعيته، ما لم يسبق ذلك فرض نموذج بديل صادر عن بناء نظري متكامل. وسواء كان المطلوب هذا أو ذاك، فإن الخطاب السائد داخل المعسكر العالمي المعارض لمنظومة الهيمنة الدولية قد يضيع عليه فرصة قيادة الجهود بحثاً عن عالم بديل. فهو إذ يستعيد الموروث النظري لانقسامات القرن الماضي، فإنه يتجاهل عنصر قوته الأساسية المتمثلة بتنوعه الداخلي واحتضانه طيفاً عالمياً عريضاً، يبدأ من أنصار الرأسمالية الاجتماعية ودعاة الطريق الثالث، وينتهي بالحركات الإسلامية المقاومة والمعارضة، مروراً بكل ألوان اليسار الراديكالي والديموقراطي وما بعد الحداثي.
ويعبر النقاش الدائر ما بين اليسار الراديكالي واليسار ما بعد الحداثي، عن هذه المعضلة، إذ لا تزال الإشكالية ماثلة عند العتبة نفسها: هل ينبغي الاستمرار في نهج معارضة الدولة الليبرالية أو الديموقراطية الليبرالية لإصلاحها من الداخل، أي بدلاً من مناوأة الرأسمالية مباشرة لكسر مقولاتها الكبرى ومسلماتها الأساسية، فليجرِ «إمطار الدولة بوابل لا حد له من الطلبات» والتركيز على الممارسات اليومية للسلطات الحاكمة: البيئة، التمييز العنصري، الاستغلال الجنسي والعنصري، مناهضة الحرب، فهذا يكشف محدودية إمكاناتها، وينزع عنها الشرعية ويقوض في نهاية المطاف سلطتها.
لكن الدعوة إلى نبذ «النموذج اليساري القديم» الداعي إلى محاربة سلطة الدولة والاستيلاء عليها، يمثل برأي الفيلسوف السلافوني الماركسي سلافوي جيجاك (في مقال نشره بعد الأزمة)، قبولاً لا عودة عنه بانتصار الرأسمالية، وتكاملاً مضمراً بين الدولة «الإمبريالية» ومقاوميها المفترضين. وتنطبق دعوى التواطؤ أيضاً على فكرة النضال الاجتماعي التي قامت عليها حركة مناهضة العولمة، والتي تدعو إلى مقاومة سلطة الدولة بالانسحاب من منطقتها وخلق فضاءات جديدة خارج نطاق سيطرتها.
ويشير الفيلسوف الفرنسي ألان باديو في مقال نشرته مجلة The New Left Review قبل بضعة أشهر، بصورة أوضح إلى التحدي الذي تمثله السلطة، إذ رأى أنّ الشكل الرأسمالي للدولة يقف عائقاً أمام أية سياسة تحررية، وبرأيه لا يكمن الحل بالتحرك الشعبي المتعدد الأشكال (كما أوحى بذلك أنطوني نيغري ومايكل هاردت في كتابهما الذي يعد إنجيل الحركة الاجتماعية العالمية «إمبراطورية العولمة الجديدة»)، بل بإحياء الأفكار التأسيسية لليسار العالمي، لكن بعد إدخال تعديلات كافية عليها تسمح بدمجها ضمن التجربة السياسية الجديدة. إن تجديد التحليل المناوئ للرأسمالية، لا بد من أن يأخذ بحسبانه جملة حقائق. فالدولة لم تعد هدفاً يستحق تجنيد النضال العالمي في سبيله بعدما فقدت موقعها المركزي في نظام السلطة العالمي، ولم تعد تمثل مصالح الطبقات الوطنية المسيطرة. وحيث إنّ الرأسمالية العالمية وصلت إلى ذروة تفردها واستقلالها في مقابل سلطة الدولة وإزاء العلاقة ما بين الطبقات الاجتماعية، فإن مواجهتها تستلزم ائتلافات عالمية ذات قواعد اجتماعية واسعة، وليس استئنافاً للتناحر الإيديولوجي العقيم. ومن ناحية أخرى، لا بد من مراجعة المفاهيم، وتحديد القيمة المنهجية والتحليلية لكل منها، فالصراع الطبقي مثلاً لم يعد يكتسب المعنى نفسه، بعدما بات العمال وصغار أرباب العمل شبه غائبين عن معادلة الإنتاج، وبعد انتشار أشكال الإنتاج الجديدة، مثل الاستثمارات المالية، والإنتاج عن بعد، التي لا يترتب عليها علاقات إنتاج، ولا ينجم عنها صراعات اجتماعية واحتكاكات طبقية بالمعنى التقليدي للكلمة.
هل يكون البديل هو أحادية عالمية يسارية في مقابل الأحادية اليمينية، وهل يصح تجاوز عقدين من النضال العالمي المتنوع، والعودة إلى الأفكار المطلقة التي لا تحظى بالإجماع المطلوب. إن فتح فضاء معرفي جديد يبدأ من نقطة مختلفة: لا حاجة لأن نضيف إلى جعبتنا أحكاماً جازمة جديدة، ولا ينبغي أن نغتنم لحظة الضعف التي تمر بها آلة الهيمنة العالمية، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ما يمكن فعله هو إيجاد مساحة مرنة للتجربة والتحليل، تقع داخل حدود متداخلة من القيم والنظريات والمبادئ، ويمكن أن تصب فيها روافد من منابع شتى.