لا شك في أن حذاء الزيدي شفى غليل ملايين العرب، لكنه كشف عن عجز يرقد فوق بركان غضب لا يبدو أنه سينفجر، ما دامت الغالبية تحتفل بـ«نصر الحذاء» وكأن المعركة انتهت
وائل عبد الفتاح
لم أره سعيداً كما كان في تلك اللحظة. يضع النار على نرجيلته ويكاد يرقص من الفرح. عيناه تلمعان وهو يهتف: «شفت يا أستاذ...». كان يشير إلى القناة التي ظلت تذيع مشهد ضرب الرئيس الأميركي، جورج بوش، بالحذاء لأكثر من 3 ساعات. رواد المقهى التفوا حول التلفزيون كأنهم يشاهدون مباراة كرة قدم ويتمنون لو كانوا كلهم مكان «ضارب الحذاء».
أين يخفي «الجمهور» الهائج عاطفياً كل هذا الغضب؟ إنها هستيريا حقيقية تشبه فرحة الجمهور في ملاعب الكرة حين يسجّل هدفاً في مرمى الخصم. المتفرجون لا يمتلكون في ملعب الكرة إلا هستيريا الفرح. لكن عندما تنتقل هذه الهستيريا إلى السياسة، فإن هذا دليل على العجز.
الحذاء هو سلاح العاجزين أمام الصواريخ الأميركية التي ألقيت وتلقى على الشعب العراقي. إنه تعبير عن شجاعة، لكنها شجاعة اليأس. واعتبار منتظر الزيدي بطل العروبة إشارة إلى وصول الضعف العربي إلى النخاع.
ضربة الحذاء حطمت أسطورة الأمن الذي لا يقهر. وطيران الفردة الأولى رسالة بليغة: «أينما كنتم يدرككم الغضب»، ولو كنتم في جنة الأمن الخضراء. الغضب قنبلة تنفجر وتحوّل فكرة الأمن إلى وهم. الشجاعة القريبة من المزاج الانتحاري وسيلة لا يمكن وقفها، إنها أسلحة مبتكرة. أسلحة تبدو خارج التوقعات وهدفها الأساسي كسر الهيبة وإهانة العنجهية التي تسيطر على الإمبراطورية الأميركية التي تظن أنها لا تقهر.
إنها موقعة خاصة بالكرامة. لا تحرك موازين القوى على الأرض. دواء للنرجسية الجريحة. يتمتم الرجل الخمسيني «راجل من ضهر راجل». تهز الرؤوس تصديقاً على الرأي، الذي جعل عامل المقهى يبتسم: «كده الناس انبسطت بعد نكسة الأهلي» (يقصد هزيمة فريق كرة القدم أمام الفريق المكسيكي باتوشكا في بطولة كأس العالم باليابان).
«يا بطل» الصرخة امتزجت مع ضحكة من القلب وصوت السياسي المعارض يكاد يخترق الشاشة وهو يقول: «إنه انتصار كبير... واستعادة للكرامة العربية». النخبة هي الأخرى مثل الجمهور الواسع تبحث عن بطل. ليس مهماً من هو؟ في دقائق أصبح منتظر هو «منتصر»، «وأصبح الحذاء رصاصة أو أقوى من صاروخ». لم يعرف أحد من هو البطل الذي قدم هدية نهاية العام لشعوب بائسة.
«خللي الغلابة تنبسط»، هذه خلاصة واقعة الضرب التي وصفها بدقة مشاهد ظل ملتصقاً أمام شاشة التلفزيون يتابع إعادة الواقعة للمرة الألف. وبعدما اكتفى، قال لمن حوله: «عندي إحساس بأني شربت أحلى حتة حشيش في حياتي».
كان هذا إحساس الملايين، التي لم تعد تملك إلا قذف الحذاء في وجه «مجرم حرب» يقذف الشعب بأحدث أسلحة الدمار الشامل ويعتذر ببلاهة معهودة عن اتباعه لمعلومات الاستخبارات الخاطئة التي قادته إلى حرب العراق.
لم يجد الصحافي منتظر ما يشفي غليله من مهنته. لم يجد أن كفاءة الصحافة يمكنها أن تحرج الرئيس مثلاً بسؤال عن التقرير الذي صدر يومها ويتهم إدارة بوش بالمشاركة في قضية فساد وتزوير كبرى في العراق بـ١٠٠ مليار دولار حصل عليها زعماء العشائر والقادة العراقيون.
لم يعد الصحافي العربي يثق بمهنته. كذلك لا يثق السياسي بسياسته ولا العسكري بقدراته العسكرية. هذه هي حالة أمة نامت سعيدة بعد ضربة الحذاء.
أين يخفي كل هؤلاء الذين ناموا سعداء بضربة الحذاء غضبهم؟ وكيف يمكن أن يتحول فعل احتجاج عادي في أوروبا وأميركا (ضرب الوزراء والمسؤولين بالبيض والطماطم) إلى نصر تاريخي؟ الواقعة ستدخل التاريخ كتعبير رمزي عن كراهية العرب لبوش، وهذا غير أن تدخل كانتصار أو إعلان قدرة وتفوق على المحتل الأميركي.
هل يشعر الجمهور المفتون بضربة الحذاء بأن كرامتهم مهانة إلى هذا الحد؟ لماذا لا يخرجون إلى الشوارع ويدافعون عن مكانهم الأخير بدلاً من انتظار أبطال لا يعرفون عنهم شيئاً؟ لماذا لا يكسرون حاجز الصمت كسراً جماعياً ويفرضون حضورهم السياسي؟
قال بوش إن ضربة الحذاء «دليل على الديموقراطية والحرية». وهذه قدرة استعراضية يرد عليها بأن ضارب الحذاء مصيره مجهول، وأنه تلقى ضربات مستوحاة من تاريخ صدام حسين وتهدده حفلات تعذيب مستوحاة من تاريخ معتقلات «أبو غريب» الأميركية، حيث لن يمتلك الحذاء، لكنه سيضاعف ماكينة الغضب التي منحته الشجاعة.
الناس في العراق ماتوا من الديكتاتورية، ولم يجدوا غير الحذاء يرمون به تمثال صدام في ساحة الفردوس. وماتت من الاحتلال ولم تجد غير بطولة ضارب الحذاء لتواجه بها بوش.
يستحق بوش قبلة وداع من هذا النوع. لكن الكارثة لو صدق العرب أنهم يستحقون حذاء البطولة.