عبد الحليم فضل الله دعوة أخرى لفصل الاقتصاد عن السياسة جاءت على لسان رئيس الحكومة. الدعوة هي إحياء لمنطق ساد بعد الطائف، واستئناف لجدل بدأ بعد عدوان تموز وتصاعد على أثر اعتصام المعارضة، وكان الهدف منه فرض توزيع مختلف للمسؤوليات عن الأزمة. لكن من يعتقد بصوابية هذا الفصل فلا بد من أن يعتقد أيضاً أنّ السياسة والاقتصاد يسبحان في فضاءين مختلفين، وأن لكل منهما حقائقه وقواعد عمله وغاياته وصانعي قراره، فإذا كان أهل السياسة ملزمين بالمراجعة بين حين وآخر، فإنّ حراس النظام الاقتصادي ليس عليهم لا المراجعة ولا التصحيح ولا حتى تعديل خطة السير، حتى لو امتلأت الطريق بعواقب الفشل.
إنّ حماية الاقتصاد من تداعيات السياسة، أو بعبارة أصحّ تجسيد السياسة للمصالح الاقتصادية العامة، هو محل اتفاق بين اللبنانيين، لكن ذلك لا يبرر إقرار التقليد الذي نشأ في التسعينيات، وأباح وضع السياسات الاقتصادية خارج سياق العملية السياسية المعتادة، مكتفياً بالتوافقات التي كانت تحصل داخل الدوائر الضيقة والمغلقة. لقد خلّف هذا التقليد وراءه ركاماً من القرارات المالية والاقتصادية الخاطئة، التي لم تتناقض فقط مع الأهداف الاجتماعية، بل أسهمت أيضاً بكبح النمو وإطاحة الاستقرار.
ومع أنّ السياسات الاقتصادية الأساسية لم توضع في سياق عملية سياسية واضحة المعالم، إلا أنها كانت محكومة لمعايير سياسية مدروسة بعناية. وهذا يفسر كيف أن بعض المشاريع والمبادرات شقت طريقها بسهولة ونجاح، فيما كان نصيب غيرها التعثر و الإهمال. لنأخذ مثلاً الوتيرة التي سار عليها مشروع الشركة العقارية والانطلاقة التي لم يحظ بها حتى الآن مشروع «أليسار»، ولنقارن أيضاً بين التباطؤ في إطلاق مشروع الليطاني وتنفيذ المخطط المائي الوطني وفشل برنامج الزراعات البديلة في البقاع من جهة، والسرعة القياسية في إنجاز مشاريع مناطقية أخرى قليلة الجدوى لكنها تصب في خانة استرضاء المناطق والفئات المهمّشة من جهة أخرى. المقارنة تجوز أيضاً بين سرعة اتخاذ بعض القرارات مثل خفض الرسوم الجمركية، والتباطؤ الشديد في تطبيق إجراءات تحظى بإجماع وطني مثل تعزيز المنافسة وحماية المستهلك ورفع الحصانة عن الممارسات الاحتكاريّة السافرة، وتعزيز شبكات الأمان التي تتضاءل سعة وتتراجع كفاءة. القرارات التي تراعي تلك المعايير كانت تحاط بكل أنواع العناية والرعاية، بينما تزج القضايا الأخرى في سباق حواجز عسير ومضن.
إذا كان لا بد من تنقية الاقتصاد من شوائب السياسة فليحصل ذلك بأثر رجعي، للتخلص من الموروث السياسي الذي تتضمنه الثوابت الاقتصادية السائدة. ففي العقدين الماضيين تعرض الاقتصاد اللبناني لموجات عدة من التوجيه السياسي. الأولى كانت في مستهل مشروع الإعمار في النصف الأول من التسعينيات، يوم تقرر أن يعاد البناء على نحو يتحسب لخيار التسوية في المنطقة. المشكلة هنا ليست فقط في فكرة التطبيع التي يتفق معظم اللبنانيين على رفضها، بل في التخطيط لاقتصاد هش قليل التنوع، محكوم بشرط مستحيل هو الاستقرار الدائم في منطقة مشحونة بالنزاعات. كان حرياً التحلل من هذا الخيار فور انهيار فرضياته، لكن هناك من قرأ المعادلة معكوسة، وبما أن اقتصادنا ضعيف وهش، فلنعد صوغ خياراتنا الوطنية وعلاقاتنا الخارجية، على نحو يصون بيتنا الزجاجي من أن يصبح حطاماً.
فشل الرهان على تسوية شاملة وسريعة، وترتبت على ذلك إخفاقات اقتصادية، وعجز مالي ومديونية عالية. ولكي تتمكن الدولة من المحافظة على الأعمدة الثلاثة لسياساتها: سعر صرف ثابت، خدمة دين تؤدى بانتظام، وتمويل كاف لقنوات التوزيع العشوائي، كان لا بد من تلقي المعونة من مكان ما. انعقد مؤتمر أصدقاء لبنان في واشنطن عام 1996، ليكون فاتحة مؤتمرات دولية تعقد في عواصم غربية، تعلن العزم على مساعدة لبنان ، وتتيح له الحصول على قروض ومساعدات تزيد وتنقص وفق وتيرة سياسية واضحة. لكن لماذا تعقد مؤتمرات المانحين في عواصم غربية، مع أنّ الجزء الأكبر من المساعدات ذات مصدر عربي؟ لأن هناك من فضّل الرعاية الدولية على الرعاية العربية في مواجهة الأزمة، حتى لو كان من تبعات ذلك زيادة الكلفة وتقليص المردود والخضوع لشروط متشددة، وهذا قرار سياسي آخر اتخذ في غفلة من الزمن. لقد أقحمت السياسة في الاقتصاد أيضاً حين تقرر اتباع مسار ينزلق لبنان معه تدريجياً إلى وصاية صندوق النقد الدولي بلا مقابل مجز، ومن دون تدبر لتجارب الدول التي وقعت ضحية توصياته النمطيّة. ينطبق الأمر نفسه على الهرولة من أجل الانضمام إلى اتفاقيات الشراكة والتعاون، حيث لم يبدر عن الحكومات اللبنانية ما يشير إلى بذل جهود تذكر لتحسين شروطها، كما فعلت بلدان أخرى.
قد يكون صحيحاً ما قاله رئيس الحكومة اللبنانية من أن اضطرابات الأعوام الثلاثة الماضية وحروبها، فوّتت على الاقتصاد اللبناني حوالى 15% من النمو، لكن الصحيح أيضاً هو أن القيود السياسية الخاطئة التي كبّلت الأداء الاقتصادي منذ عام 1993 جعلت حجم الاقتصاد اللبناني يساوي أقل من 40% من المستوى الذي كان من الممكن بلوغه، فيما لو أحسن استغلال طاقاته الكامنة، وعمل على تحقيق التقديرات التي تقررت على أساسها وجهته الراهنة.

ليس مطلوباً فصل السياسة عن الاقتصاد بل توطيد أواصر الصلة بينهما، فالخيارات الاقتصادية التي تنبثق من عملية سياسية صحيحة وواعية، ستحدّ من دور الردهات الخلفية والغرف المغلقة، وربما انتهت إلى حل معضلة التناقض السافر بين ما يقوم به السياسيون وما يظن جمهورهم الخاص أنهم يفعلونه.