وائل عبد الفتاحالشعب في مصر درجات. لا قانون يساوي بين أفراده، الذين باتت غالبيّتهم تعيش على هامش الدولة. قلّة هم من اصطفتهم السلطة الحاكمة ليتمتعوا بنعيمها. الباقي يقاتل للحصول على فرص تعليم معتقل أو محاسبة مسلوبة أو نقل مضمون

جامعة تحت الاحتلالإنه ابن عصره بمعنى من المعاني. كما كان رؤساء الجامعة في فترات التأسيس والازدهار أبناء عصرهم. الأمير يوسف كمال، مؤسس كلية الفنون الجميلة، أسهم بثروته الكبيرة في تنمية القرى في الصعيد، وعندما قامت ثورة الضباط الأحرار أعاد إلى مصر مجمل ممتلكاته في الخارج، وسدّد ثمن ماكينات زراعية اشتراها من أوروبا لأرضه التي كانت مصادرة.
كذلك فإن أحمد لطفي السيد، الذي اعتبرت استقالته من الجامعة يوم ٩ آذار ١٩٣٢ احتجاجاً على إدانة طه حسين في معركته حول كتاب «في الشعر الجاهلي» عيداً لاستقلال الجامعة، رفض بعد تموز ١٩٥٢ أن يكون أول رئيس جمهورية كما اقترح عليه جمال عبد الناصر في السنوات الأولى. وهذه إشارة إلى ندّية والشعور بأن علمه فوق المناصب ويتكافأ ربما مع سلطة الضباط.
الدكتور حسام كامل ابن عصر ما بعد التأميم، وهذا ما جعله متوافقاً مع قرار إخلاء الجامعة من الطلاب والأساتذة يوم ختام الاحتفال بالمئوية (غداً) لأن الرئيس (كما تقول الشائعات) أو رئيس الحكومة (كما أُعلن فعلياً) سيحضر الاحتفال.
الدكتور من سلالة «خبراء» في عصر تجاوز مرحلة «النظام الذي يجسد الشعب»، الذي تقوم سلطته على «تحالف قوى الشعب» بقيادة الزعيم الملهم. اليوم، إذا حضر الرئيس غاب الشعب. هذه أصبحت قاعدة دولة لم تعد «خادمة» أو «ملهمة» أو «قائدة» أو «مجسّدة أحلام» المجتمع.
الدولة تقوم على اختصارات تزداد عنفاً، حتى أنه عندما قرر أو فكر الرئيس حسني مبارك في حضور الاحتفال بمئوية جامعة القاهرة (ربما ليظهر كمحبّ للعلم) ألغيت فكرة الاحتفال الشعبي واستبدل به احتفال رسمي يحضره المسؤولون وقائمة أساتذة لم يصنّفوا على أنهم مشاغبون أو خارج السيطرة. وبالنتيجة (المتوقعة) سيخرج الاحتفال ميتاً بلا روح كعادة الاحتفالات الرسمية التي تبدو فاخرة ومهيبة من الخارج، لكنها تتحول إلى استعراضات مجانية.
لم تفكر الجامعة في إعادة جسورها المقطوعة مع مجتمع يعود إلى حقب منقرضة، تنتشر فيه الخرافة والجهل والتعصب متجاورة مع ارتفاع معدلات استهلاك في بضائع الحداثة. الجامعة أقيمت بتبرعات أهلية من المجتمع المصري وكانت إحدى علامات دخول مصر عصر جديد من المدنية والحداثة. وفي مئويتها، ستصبح مجرد ثكنة عسكرية تلغى فيها الدراسة ويمنع الطلاب والأساتذة من الدخول إلا بدعوات مجازة من الأمن.
هل هناك ما يدعو إلى الدهشة؟ إنه ليس احتفالاً بالجامعة، التي خاف منها المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر وحارب قيامها، وقاد مصطفى كامل حملة لإقامتها وتحمست الأميرة فاطمة إسماعيل للمشروع وتبرعت بالأرض والثروة (مجوهراتها الخاصة). أي أنه مشروع اشتركت فيه رموز وشرائح من كل المجتمع المصري. إنه احتفال بأحد مصانع تربية المواطن المذعور.
مدير الجامعة يعيّن بقرار جمهوري، بعد تقرير أمني يثبت الولاء والطاعة. هكذا بعدما كانت الجامعة خطوة في تحرير مصر من الاستعمار، باتت محتلة. ليس فقط من جيش الشرطة الذى يمنع مرور الهواء من بوابتها، بل من جيش آخر تسرّب خلال سنوات طويلة وسيطر وتحكّم في مناهج التعليم وطرق التفكير وحركة ترقيات الأساتذة. جيش من أساتذة أكمل مسيرة الأمن في تحويل الجامعة إلى مخزن موظفين وعاطلين وجنود في ميليشيات التطرف.
الأساتذة أنفسهم تحوّلوا في الغالب إلى موظفين يخافون الخروج عن المسموح. والأستاذ من الجيل الجديد، تناديه السلطة فيتحول من عالِم لامع إلى ترس في ماكينة قديمة (الأمثلة كثيرة، آخرها رئيس مجلس الشعب الحالي الدكتور فتحي سرور ووزير الشؤون البرلمانية الحالي الدكتور مفيد شهاب، وكل منهما كان نجماً لامعاً في علوم الدستور. وعندما توغلا في وظائف الدولة لم يفعلا غير السير عكس كل ما علّماه لآلاف الطلاب). هناك نوع آخر من الأساتذة تناديه الثروة، تمسخه إلى سمسار كتب وامتحانات ودروس خصوصية.
الأمن وأساتذة عصر الدولة البوليسية أعلنوا منع التفكير والحرية في الجامعة. وبدلاً من تعلّم مناهج البحث، تحوّلت المدرجات إلى كتاتيب لتلاميذ يحفظون الأفكار القديمة لينجحوا في امتحانات لا تهتم بمستوى التفكير، بل بالقدرة على الحفظ.
هذه هي الجامعة تحت الاحتلال. تركت واحداً من أساتذتها مثل الدكتور نصر حامد أبو زيد يخرج غريباً، منفيّاً قبل ١٤ سنة تقريباً بعدما اصطدم مع جناح الفقهاء في جامعة القاهرة وحرموه من الترقية وكفّروه وقادوه إلى محاكم تفتيش أصدرت حكماً بالتفريق بينه وبين زوجته. الجامعة تركته وحيداً من دون سند كبير، بل إنها عندما قرر نصر أن يسافر إلى منفاه الاختياري في ليدن في هولندا، لم تسأله عن رسائل الدكتوراه، التي كان يشرف عليها. وبعدما كانت الجامعة حلمه الذي حارب من أجل تحقيقه (انتصر على ظروف الفقر وأصرّ على دخول الجامعة وعمره أكبر من الطلبة العاديين). بعد الحلم، خرج نصر أبو زيد مطروداً من الجامعة، التي كان من المفروض أن تدافع عن جوهر وجودها في المجتمع (حرية البحث) ولا تترك نصر وحيداً في مصيدة التكفير.
احتفال يليق بجامعة معتمة لا تفتح كل يوم شرفة في عقل شباب واقع تحت سيطرة محكمة ترعبه من التفكير وتفقده القدرة على الابتكار، وتخرّج أجيالاً من المتعلمين الفخورين بجهلهم.
«الجامعة تحوّلت إلى معتقل»، كما قال ذات مرة الدكتور محمد أبو الغار، الأب الروحي لحركة استقلال الجامعة، التي اتخذت ٩ آذار اسماً لها تخليداً لاستقالة لطفي السيد دفاعاً عن حرية طه حسين.

لهو عن المحاسبة



الكاتب محمد حسنين هيكل في حلقاته على قناة «الجزيرة» القطريّة أقرب إلى رجل دولة يقوم بزيارات لتاريخ قريب. الجديد فيها وثائق حرب حزيران 1967... سرّ هيكل المقدس
ارتبط حضور محمد حسنين هيكل بعد مغادرته السلطة بسلاح الأرشيف، الذي كوّنه بغريزة الصحافي وشغف رجل الدولة في إبراء ذمته عندما تتصارع الروايات. وثائق هيكل «أسطورة» في حكايات شفاهية عن خزائن من مستندات لا تملكها الدولة ويحتفظ بها هو وحده. يخفيها في مخزن سري مدفون في حائط يتحرك بالريموت كونترول. ظلت هذه الأساطير تحيط هيكل بهالة تنتظر منه أن يُخرج الحقيقة من مكمنها في آخر لحظة. حقيقة تقلب الطاولات وتعيد ترتيب المواقع والأحداث. لكن الساحر ظل يخرج الروايات ناقصة طوال أكثر من 30 سنة. يبرز وثيقة ويقيم حولها حفلاً كبيراً يطمر فيه الوثيقة تحت ركام البهارات والحكايات المضافة.
وهذا ربما أحد أسباب عدم الالتفات إلى زيارته الجديدة لوقائع هزيمة حزيران 1967، وخصوصاً أن هيكل الراوي الشفاهي أقل فتنة من الكاتب. الزيارة جديدة فعلاً، وتعبر عن رغبة هيكل بأن يقول الرواية كاملة من أجل إبراء الذمة (ذمته أو ذمة الرئيس جمال عبد الناصر). ليس هذا هو المهم الآن، المهم هو اعتماد الزيارة على وثائق جديدة ويوميّات كتبها هيكل عندما كان شريكاً ومشاركاً في صنع الأحداث. ربما شعر هيكل أن هذه هي اللحظة المناسبة لظهور الوثائق بعدما دخلت في الشدّ والجذب بينه وبين نظام حسني مبارك بعد تخطّيه الخط الأحمر في محاضرة الجامعة الأميركية (2005). هيكل قال يومها من تحت السطور: «مصر تحتاج إلى شرعية جديدة»، ومن يومها والتلميح حول «شخص يمتلك وثائق غير موجودة في الدولة» و«لا بد أن تعود الوثائق» و«سيصدر قانون جديد للوثائق».
هيكل صمت سنة بعدها تقريباً. فكّر خلالها أن يسلّم الوثائق إلى الدار القومية، لكن حالتها المذرية منعته، ففكّر في مكتبة الاسكندرية لكنه شعر بالقلق من شبهات في التطبيع مع إسرائيل. هذه حكايات هيكل في الحلقات التمهيدية عن حرب حزيران قبل أن يلمّح إلى أن الوثائق في مكان خارج مصر، وأنه يحمل صوراً حصل عليها بصورة مشروعة.
لكن يبدو أن الدولة لاهية عما يقوله. لم يفكر أحد فيها بتشكيل هيئة مستقلة لمناقشة الوثائق الجديدة. والمجتمع في لهو آخر عن رواية يمكن أن يستعيد بها مبدأ المحاسبة وإعلان المسؤولية عن هزيمة لا تزال آثارها حارقة.
في رواية هيكل حقائق قديمة، لكنها لا تزال صالحة لإثارة الدهشة. يروي مثلاً أن عبد الناصر لم يكن من هواة الدخول في الحروب. وهذا يعني من وجهة نظر هيكل (المدعمة بالوثائق والملاحظات المكتوبة بخط يد مشاركين في الأحداث) أن عبد الناصر انزلق إلى الحرب، بمعنى أنه تورط فيها أو استدرج إلى فخّ كبير.
من الذي صنع الفخ؟ لم يهتمّ أحد حتى الآن بالإجابة.

«شهداء» حرب غير معلنةهذه المعلومة من تقرير أصدره مركز المعلومات واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء. تقرير حاشد بمعطيات تفوق الخيال، مثلاً أن معدل الوفيات نتيجة هذه الحوادث بالنسبة إلى إجمالي السكان في مصر بلغ 8.6 حالات وفاة لكل‏100‏ ألف نسمة عام ‏2006.‏ وأن معدل الوفيات بالنسبة إلى عدد المركبات يعتبر الأعلى مقارنة بالدول الأخرى،‏ إذ بلغ نحو‏ 156.3 حالة وفاة لكل‏100‏ ألف مركبة عام ‏2006‏، في مقابل 72.6 في تركيا‏، و28.6 في اليونان‏.‏
الأرقام مستمرة: عدد حوادث السيارات في مصر بلغ عام ‏2007‏ نحو 22.4 ألف حادث، بنسبة ارتفاع بلغت 16.7. كما بلغ عدد الحوادث في الأشهر الأربعة الأولى من ‏2008‏ نحو 7 آلاف حادث‏.‏ هي ليست إلا انتحاراً جماعياً يحوّل الطرق السريعة إلى مصائد موت، وقيادة سيارة على هذه الطرق هي مشاركة في حرب أهلية من دون قواعد. قيمة الحياة تكاد تختفي. الركاب مضطرون لاستخدام حافلات من دون شروط سلامة أو ضمانات متفق عليها. الحافلة تتحول إلى نعش سائر، تحاول تفادي سيارة نقل تسابق الرياح. سائق الحافلة لا يتحكّم بعجلة القيادة لأن حمولته فائضة (أكثر من 70 راكباً في حافلة مخصّصة لـ50).
جريمة مشتركة، يستسلم فيها الأهالي لشروط فوق السيطرة وجهاز تنفيذي يدار بمنطق الأتاوة وقانونه السرّي: الفساد هو الطريق الوحيد للرزق، أما الحادثة فهي قضاء الله وقدره. سيارات النقل الضخمة بمقطوراتها تلهو في الطريق من دون رقابة الأمن، لا يردعها أحد ولا يخيفها قانون. فالسائق يعرف ديتها: سيدفع الأتاوة ويمر مهما كانت مخالفته.
ثقافة الأتاوة منتشرة وممتدة من قانون مفروض منذ سنوات: «ما دام لك قريب كبير ستستعيد رخصتك ولو كنت تسير بسرعة 2000 كيلومتر». مع طول الاستخدام، انتقلت العدوى إلى أصحاب نفوذ أقل. أرادوا تعميم القانون والاستفادة من التسيّب. ومن هنا يتساوى سائق النقل مع صاحب أحدث السيارات.
المساواة قاتلة والقوانين تقف عاجزة أمام مافيا فوق قانون المحافظة على الحياة. الجهاز التنفيذي سهل الاختراق لأنه مبنيّ من دون رسالة قيم وتحكمه مافيا فساد لا تخضع للمحاسبة.
وبفعل الزمن، يتعايش المجتمع مع الفساد، لأنه يرى السلطة قدراً وسلوكها لا رادع له. أما قتلى الطرق فهم «شهداء» حرب غير معلنة.