أنا أعرف جيداً أنك لا تحب الوداع، يا حكيم. لا تعرف يا حكيم كم تحتاجك الثورة اليوم. أبا لميس، فجأة نجد أن هناك شرخاً كبيراً في قلوبنا ولا نستطيع أن نملأه بأي طريقة سوى تذكّر كلماتك: "الثوريون لا يموتون أبداً".هي تذكرةٌ كبيرة لرحيلك يا حكيم الثورة الفلسطينية: ستكره أن نودعك، وستكره أكثر أن كثيراً منا نسوا الطريق الذي سرت عليه يوماً، وبأن البعض اختار السلام، وبأن آخرين اختاروا الانفصال والإمارة.

ستشعر بأن الفلسطينيين حماة القافلة وبناة الوطن - كما كنت تسميهم - هم أنفسهم من يؤيدون الخطأ قبل الصواب. ستشعر – بما أنك دائماً بيننا - بأنّ كثيراً من أحلامٍ ظللت تغرسها فينا باتت الآن على شفير النهاية. ستشعر يا حكيم بأنَّ بلاداً سعيت لأجلها، ترحل وحيدةً.
أذكر تلك القصة التي لطالما حكى عنها كثيرون عن أنفتك وصبرك، كنت تزور فرنسا، فألقى الأمن الفرنسي القبض عليك تحت حجّة أنك "إرهابيٌّ" مطلوب، وكانوا ينوون يومها تسليمك للصهاينة. يومها لم تهن أو تهدأ، قالوا إن المحقق عرض عليك التعاون مقابل أن يسجنوك بضع سنين، وبعد ذلك يفرجون عنك، وذلك بدل تسليمك للصهاينة وقضاء عمرك في زنازينهم، هذا إذا لم تعدم. أتذكر ما كان جوابك يومها يا حكيم؟ أنا أذكر: لقد قلت لهم بثقة العارف بالشيء، الموقن برفاقه "خلوني هون، بكرا الشباب بالجبهة بيحرقوا الأخضر واليابس. أنا الحكيم".
حاول الفرنسي اللعب على الوقت، الضغط عليك كثيراً كي "تعترف" بما يريدون، لكن الرفاق في الجبهة كانوا عند حسن ظنّك، كانت كلماتك تكفي وحدها: كان طيفك حاضراً – كما هو اليوم - في كل سكنات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. اضطر الفرنسي إلى أن يتركك حراً ودون أي "ضابطةٍ" قانونية ضدك. كان خوفهم من "الفلسطيني" أكبر بكثيرٍ من أي شيءٍ آخر، كنت أول من أسرج خيل "الرد" بالرد. ودعت فرنسا وضباطها وأنت تبتسم، حتى أنك كنت تقول ممازحاً: "قلتلهم بدي أشتري شال للميس، بس ما خلوني أروح السوق". أتعرف يا حكيم، هي رباطة الجأش عند المصائب التي تميز القادة الحقيقيين عن غيرهم. هي قدرة "الشكيمة" ومعرفة أن النصر لا بد قادم. كم نفتقدك اليوم يا جورج حبش!
سنلتقي يوماً، أنا أعرف، أذكر في آخر مرةٍ التقينا فيها، أذكر كم كنت منهكاً وتعباً، ومع هذا لم تكن تريد أن يساعدك أحدٌ على نزول الدرج، لربما لأنك كنت تحاول إفهام الجميع أنه حتى المرض لا يمكن أن يهزم مقاتلاً صلباً مثلك. كنت تنزل الدرج، والتقيتك سائلاً عن الثورة والثوار، وقفت معي لعشر دقائقٍ كاملة، وأنا الذي كنت صغيراً في السن آنذاك، فلم أراعِ، سنك أو مرضك، كنت أحس بأنني أريد أن أنهل منك أكثر: فأنت الحكيم. أنت احترمت ذلك، وأجبت عن أسئلتي، ثم اعتذرت بلطفٍ أكثر من رائع: الشباب ناطرين بالاجتماع. لم تقل لي إنني كنت آخذ وقتاً ليس لي.
أشكرك يا حكيم على ذلك الوقت القليل، وأخبرك أنه بعد ذلك بأيام أخرجت رسالتك إلى "ابنتك" لميس التي تشرح بها لِمَ أنت لست في البيت كل يومٍ، لِمَ أنت مضطر إلى الغياب، ولِمَ عليها أن تشتاق إليك بدلاً من رؤيتك كل يوم. يومها أخرجت تلك الرسالة وعلقتها في غرفتي، وما زالت حتى بعد زواجي معلقة في غرفة نومي.
الثورة يا أخي الكبير، ورفيقي، ومعلمي، الثورة هي أن نكون نحنُ، أن نحب هذه الأرض، وأن نضع دمنا رخيصاً كي تعود. أليس كذلك؟ هكذا علمتنا، وهكذا سنبقى. المجد كل المجد للثوار أينما وجدوا... هنا أو هناك حيث هم خالدون.