بيت لحم، مهد المسيح، ومدينة العيد. يفترض أن ترقص بهجة في هذا الوقت من العام. الزينة موجودة والسياح أيضاً، لكن عمق المدينة ينزف بصمت ويئن من وقع الحصار المسكوت عنه، وسيبقى كذلك بعد الاحتفال
فراس خطيب
بيت لحم حاضرة على إشارات المرور المتمرسة على الدرب المؤدية إليها من القدس المحتلة. من لم يدمن النزاع بعد، يرَه مستتراً من وراء كل التفاصيل: جدار ضخم يحجب الأفق، وإلى جانبه أسلاك شائكة؛ لافتات تحمل أسماءً لا تسمعها سوى في نشرات الأخبار؛ من هنا إلى الخليل ومن هناك إلى كريات أرباع. نفقان طويلان يؤديان إلى حاجز «حضاري البنية»، فيه خمسة ممرات وإشارات ضوئية، يشبه إلى حد كبير معابر الدخول إلى الطرق السريعة في أوروبا، لكنّه في الحالة الفلسطينية يؤدي إلى صلب الصراع.
من يرد الوصول إلى مدينة المسيح فعليه الصعود إلى سفح بيت جالا، والوصول إلى نقطة عسكرية «أليفة» لا تفتيش فيها. من بعدها الانحدار إلى قلب المدينة: شوارعها واسعة ونظيفة، بيوتها تكتسب حضوراً بفعل الحجارة التي يراوح لونها بين الأبيض والأصفر. من يفتش عن ملامح عيد الميلاد فقد يجدها على واجهات محال تنتظر المساء لتحيا، وقد يسمع تراتيل هادئة تتصاعد من أماكن مجهولة لتضفي جمالاً على شوارع المدينة الجميلة أصلاً. لكنّ من يفتش عن «بهجة» الميلاد فلن يجدها. ببساطة بيت لحم مدينة لا تشبه صورتها في كتب السائحين.
الوقت يقترب من الظهيرة، شرطي فلسطيني يقف على مدخل الساحة المؤدية إلى كنيسة المهد، حيث البلدة القديمة، ينظم حركة السير، بينما التحضيرات جارية على قدم لـ«الاحتفال الكبير» في الساحة. سائحون يلتقطون صوراً وآخرون يملأون أكياس تراب لتحكي عن المكان في مكان آخر. الغيوم تهدّد بمطر لا يأتي، والطقس بارد إلى حد القسوة. طفل صغير يقف على مقربة من السيارات، لا يرتدي ما يصدّ البرد عن جسده النضر، يمد يدّه للقادمين، لا يحكي شيئاً عن حاله، لكنّ عينيه تبوحان بالمأساة.
على مدخل السوق في البلدة القديمة يقف أبو المجد من وراء «بسطة» الخبز. هو ابن لهذا السوق منذ أربعين عاماً. حين تسأله عن الحال لا يتردد قبل البوح، يشعل سيجارته ويتحدث عن كل شيء؛ عن الماضي الذي كان أجمل، وعن الحاضر الذي صار أشدّ قهراً: «لو جئت في الماضي لما كان لدينا وقت للحديث. ولكن الفراغ يمنحنا اليوم ما يكفي». يفكر ملياً ويختصر الفرق: «كانت بيت لحم ذات يوم، بيت لحم».
ليست المدينة هي البائسة، بل الحصار المفروض على مشارفها. حصار يدفعها نحو حال الموت البطيء. لقد زادها الجدار عزلة. تلك المدينة التي كانت تربط شمال الضفة الغربية بجنوبها، من الخليل إلى القدس، صارت معزولة. ويقول محمد جرادات، من مركز «بديل»، «كانت المدينة تعيش على مدار الساعة، لكنها اليوم تغلق محالها عند السادسة مساءً، وتتّكل على أهلها، حتى أن المؤسسات الرسمية نقلت إلى رام الله، ما زاد من عزلة المدينة».
التجوال بين الحوانيت يعني السير بين القصص. كان أحد التجار جالساً إلى جانب عربة الحلويات يقاوم برد المكان. حين تنظر إليه يبتسم فرحاً لـ«قدوم الزبون»، لكنّه لا يتردد في الحديث للغرباء عن حاله والمدينة «الحصار في كل مكان، لا أحد يأتينا ولا نخرج إلى أحد». ويسترسل إلى حين الوصول إلى قصته الشخصية: «لديّ تسع بنات وولدان، وزوجتي أصيبت بسرطان في المعدة، وأنا خرجت لتوي من المستشفى بعد نوبة قلبية إلى العمل مباشرة». يهدأ للحظة، ويحدق في فراغ الشارع، يشعر بأنّه أثقل في قصته على الزائر، يبتسم فجأة، ينزل عن كرسيه ويقطع شريحة من الحلويات: «هذه مني، تناولها أرجوك، لا تشعرني بأنّ قصتي أثقلت عليك».
السائحون موجودون في بيت لحم، لكنّ حضورهم في سوق البلدة القديمة شبه معدوم. يفسّر أحد التجار: «يتفقون مع شركات إسرائيلية، يأتون إلى هنا يصلّون، يصعدون إلى الباصات ويعودون». ويكمل آخر «يشترون فقط من المحال في ساحة المهد. وهي تابعة لعائلات غنية. حتى لو تجولوا في السوق فلا يشترون حتى قنينة ماء. كل قضية السياحة والحديث عن إحياء المدينة كذبة كبيرة».
بيت لحم مدينة تختلف عمّا يسمعون عنها، إنّها مدينة جميلة، لكنّ أناقتها لا تنقذها من العزلة. من يمر في سوقها يشعر بحاجة لقول ما لا تقوله الحكايات المعلنة. البلدة هادئة، لكنّ الهدوء لا يعني الطمأنينة. والبلدة مستقرة، لكنّ الاستقرار في حالتها يعني نزيفاً بطيئاً لا يبشر بخير بقدر ما هو وضع راهن بالكاد يحتمله الناس. كل شيء يتخذ معنى آخر في النزاع، حتى الحلم يختلف، ويتجلّى بمأساويته في حديث شاب يحلم بزيارة القدس المحتلة وهي على بعد تسعة كيلومترات منه.


البحث عن الهجرةبيت لحم هي المدينة الأكبر في المحافظة التي تحمل اسمها. القادمون إليها من بعيد يعيرونها اهتماماً كبيراً على الرغم من الأوضاع الأمنية التي ساءت للغاية منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. بيت لحم التي خنقها الجدار وقطعها عن باقي محافظات الضفة الغربية لا تزال تكتسب حضوراً تاريخياً لا ينتزعه الحصار. اسمها في اللغة الكنعانية يعني «بيت الخبز». تقع المدينة على ارتفاع 765 متراً من على سطح البحر، وهي أعلى من مدينة القدس بـ30 متراً. عدد سكانها يصل الى 38 ألفاً، فيما يصل عدد سكان المحافظة الى ما يقارب 180 ألفاً. تصل مساحة المحافظة إلى 660 كيلومتراً مربعاً، وهي 11 في المئة من مساحة الضفة الغربية. تضم المحافظة عشر بلديات أهمها بيت جالا وبيت ساحور والدوحة، و24 مجلساً قروياً، وثلاثة مخيمات للاجئين الفلسطينيين: عايدة والدهيشة والعزة.