وائل عبد الفتاح«التحرش» أصبحت كلمة سياسية. البعض اعترض على محاكمة المتحرّشين جنسياً، ليس من قبيل الدفاع عنهم، ولكن لأن «النظام يتحرش منذ ربع قرن بالمصريين ولا أحد يحاكمه». السخرية تختلط بالعنف والتربية بالقتل

إعلان حرب ... على الحقوققد يكون الرجل «غلباناً»، لكنه اعتدى على حقوق امرأة وانتهك جسدها. وهذه ليست غلطة عابرة، إنها نقطة محورية في العلاقة بالحياة في بلاد تقيم عند خط التماس بين التخلف والتحديث، بين البداوة والتحضّر، بين الدولة القديمة والدولة الحديثة. بلد لم تؤسس فيه قواعد المدنيّة. والنهاية: تحرّش وصمت، أي أن تعيش معرّضاً للانتهاك من الجميع: حكومة وغلابة. فكرة رهيبة ومزعجة.
نهى رفضت أن يُضرب المتحرش في مركز الشرطة. الضباط أرادوا إنهاء الموضوع على طريقتهم «صفعتان وتعتذر وتذهب». أرادت حقها بالقانون رغم الصيحات المحذّرة «هاتتبهدلي»، «أنت مجنونة». كل هذا لا يلغي أن الفعل فظيع وأكبر من العقل الذي حاول به الجميع أن يثني نهى عن الاستمرار في القضية. الجميع بداية من الشهود الصامتين السلبيين، مروراً برجال الشرطة، وانتهاءً بالأصدقاء والجيران. كلهم كانوا مع أن تتنازل عن حقها وأن ما حدث عادي ويتكرر كل يوم.
والموضوع ليس في الكبت الجنسي، حيث التحرش شبه العلني طريقة من طرق التنفيس غير المباشر عن الهزائم الجنسية. الموضوع هو غياب ثقافة الحقوق. يتنازل المصري عن حقوقه تدريجاً، أولاً تجاه السلطة ثم تجاه أي شخص يتصوّر نفسه قويّاً للحظة واحدة. إنها ثقافة البقاء للأقوى والأكثر قدرةً على الفجاجة والاستوحاش.
المعتدي «الغلبان»، الذي قال أقاربه في المحكمة إن نهى «مش طبيعية»، لم يكن كذلك عندما استضعفها وقرر أن يتسلى بها. لم يكن كذلك حين تصوّر أنه وحده ملك الطريق ويملك قوة كافية لأن يسرق هذه اللمسات الفاجرة ويغادر مزهوّاً بقوته. ربما يكون المتحرش مهزوماً في كل لحظات حياته، مضحوكاً عليه ومنتَهكاً. لكن هذا لا يبرر جريمته.
هذه ظاهرة مرضية. الصحيح فيها الوحيد هو نهى، التي انفجرت داخلها طاقة جعلتها تتعلق بسيارة المتحرش وتتحدى نظرته المبتسمة ثم تطارده وتلاحقه قانونياً.
الحكم لمصلحة نهى بسجن المتحرش 3 سنوات، بدا نهاية سعيدة، لكنها لم تتم. تكسّرت الدراما من جديد وسارت الأحداث باتجاه إثارة من نوع غريب بعد انقلاب المحامية، لتظهر قصّة مضادة عن «مؤامرة على سمعة مصر». وكأن هذه كلمة السر التي تحركت فيها جوقة إعلامية وقانونية تغنّي نشيد «بنحبك يا مصر».
القصة المضادة لا تخلو من إثارة: المحامية حكت أنها كانت تدافع عن نهى إلى أن اكتشفت الحقيقة. ما هي الحقيقة؟ نهى إسرائيلية.
الحقيقة أخرست الألسن وأصابت الجميع بالدهشة. القضية صناعة إسرائيلية ضد مصر، وبطلتها عميلة مندسّة صنعت قصتها بحبكة تتفوق فيها على الجواسيس المشهورين، حتى إن المحامية لم تكتشف حقيقة جنسيّتها إلا بعد انتهاء القضية. ليس هذا فقط، لكن المحامية اكتشفت، مع إسرائيلية نهى، أن القضية «مفبركة» والسيناريو محبوك جداً.
لم تقل المحامية كيف اكتشفت؟ هل هو وحي؟ أم انكشاف صوفي؟ أم أساليب فائقة في الكشف عن الكذب؟ والأهم ما العلاقة بين اكتشاف الجنسية السرية لنهى وحقيقة أن التحرش وقع، وأنه جريمة والسكوت عنها جريمة مضاعفة؟ لا إجابة. المحامية ابتسمت وانتفضت عروقها وهي تعلن الحقائق، وخلفها جوقة من المنشدين في الصحف للدفاع عن مصر التي في خاطرهم.
ونهى وحدها شعرت بأن جريمتها تمت. وأنها تعاقب على محاولتها الدفاع عن حقها. وها هي أصبحت في موقع الدفاع. انتقال دراماتيكي مؤلم. الضحية متهمة ومضطرة لأن تحكي قصّتها: أنا لاجئة فلسطينية، عائلتي حصلت على حق اللجوء من ٦٠ سنة، ولدت في ليبيا. أبي فلسطيني وأمي مصرية. لم أر فلسطين ولم أزر إسرائيل في حياتي.
وقصة المحامية؟ تحكي نهى: «قبل المحاكمة بأربعة أيام، قابلت المحامية في كواليس برنامج تلفزيوني وطلبت الانضمام إلى فريق الدفاع. لم أعترض، والآن أعرف أن هذا من قلّة خبرتي. لكنني لم أعمل لها توكيلاً. حضرت يوم المحاكمة وأثبتت حضورها ضمن فريق من منظمات المجتمع المدني. وبعد الحكم، اعترضت على أنني أظهر في التلفزيونات مع محامٍ آخر. بعدها بيومين وجدتها على الشاشة تحكي قصتها».
قصة ضد قصة. ومؤامرة ضد الوطن. وبلاغ من محترف القضايا وقائد جوقة «سمعة مصر»، المحامي نبيل الوحش، يطالب بالقبض على نهى. نهاية مفتوحة، لم يتوقّعها حتى أبطالها.

«شهيد الواجب المدرسي»


الموت في مصر متعدّد الأوجه. يأتي من مراحل إهمال متعدّدة، أحدثها عبر التعليم، الذي هزّت قضيّة مقتل طفل على يد معلمه الرأي العام، لتفتح العين على العنف المدرسي، المقبول اجتماعياً ورسميّاً
«شهداء الواجب المدرسي». ليت التسمية ساخرة. لكنها مرارة الأم التي حاولت أن ترى جانباً مضيئاً في قتل تلميذ بسبب تقصيره في واجب الرياضيات. الطفل اسمه إسلام عمرو بدر وعمره ١١ سنة. وكما يبدو من الصور، يجمع بين شقاوة العابرين من الطفولة إلى المراهقة مع إشارات من الطيبة والسذاجة.
صورته المنشورة يومياً في صحف القاهرة تعذيب متكرر. فالفتى اختطف من رحلة عبوره إلى الصبا. خطفه مدرّس تطرّف في قسوته واختلط عنده التهذيب بالتعذيب، والتربية بالقتل. لم يتخيّل أن نوبة القسوة ستقود إلى جريمة، وأن ضربة البطن ثم الركلات المتتابعة ستحوّله من معلم إلى قاتل.
قتيل المدارس هو الحالة الفاجعة، لكنه ليس استثناءً. المدارس هي ملاعب تمارس فيها تمارين القسوة يومياً، والتلميذ هو مشروع المواطن المثالي يتعرض لتدريبات ممنهجة ليصل إلى درجة فائقة من التوافق والقابلية للخضوع. المدارس هي مصانع المواطنين النموذجيين. والعنف سيد المهارات التي يتمتع بها المعلمون كرموز مبكرة للسلطة، يراها التلميذ ويعرف أنه سيدخل علبة التعذيب لا ليحصل على فصل دراسي، بل ليؤهل للحياة الهادئة بعد التخرج.
المناهج والامتحانات أصبحت في مكان آخر. مقارّ «دروس خصوصية» (حجم تداولها يتجاوز ١٢ مليار جنيه هي بديل المدرسة في التعليم). المدرسة (الحكومية) مهمتها تخريج سلالات السمع والطاعة من المواطنين. مدارس أخرى (خاصة وأجنبية ودولية ودينية) يتعلم التلميذ حجز مكانه المميز (دينياً أو مالياً أو اجتماعياً). مدارس نخب يتعلم فيها التلاميذ أسهل الطرق لحجز مكان في الطبقة.
الموقعة المدرسية التي حدثت في الاسكندريّة، لم تكن أوّل أو آخر موقعة. فقد نشرت الصحف في اليوم التالي تفاصيل حرب شنها معلم آخر على ١٥ طالباً في محافظة الغربية حاملاً عصا المكنسة، ووحده استطاع أن يوقع عدداً من الجرحى وترك في أجساد طلابه كدمات من النوع الطويل العمر.
العنف في المدارس عادي رغم أن القانون يمنعه وتصريحات المسؤولين تلعنه. هناك أولاً قبول بأن العنف في المدرسة تأديب وتهذيب وإصلاح. وثانياً المدارس الحكومية ساحات معارك، البقاء فيها للأقوى: عصابات طلاب أو معلمين متجبّرين. وإذا بانت من المعلم ليونة أو أدب أو ضعف فسيفقد سلطته.
تمرين آخر على الحياة خارج أسوار المدرسة. السلطة لا بد أن تتميز بالعنف المفرط لكي تحكم السيطرة. وإذا كانت فكرة المدرسة عند راديكاليين قدامى فكرة «للخضوع الاجتماعي»، فماذا عنها اليوم وهي ساحة يصبح فيها القتل عقوبة الخروج على الطاعة؟

مدن المواطنين والأجانبورغم أن المدينة لم تكن من مدن السحر والجمال، إلا أنها كانت متماسكة، تضم أكبر قلعة نسيج في الشرق الأوسط، وإلى جانبها ما يقرب من ١٥٠٠ مصنع نسيج خاص. طلعت حرب وجد في المحلة المكان المناسب لبناء مصنع النسيج العملاق الذي كان رمزاً أيضاً لرغبة الرأسمالية المصرية في عبور مصر إلى المرحلة الصناعية. وكان من المفروض في العصور التالية أن تستكمل خطوات العبور وتتحول إلى مدينة صناعية تغيّر شكل الحياة في المنطقة المحيطة بها. لكن من يزور المحلة اليوم يظنّ أنها تعرضت لنكسة حقيقية. المصنع في أسوأ حالاته. ومصانع النسيج الخاصة تعاني من سكرات الموت.
الطريق الرئيسي الذي كان يربط المحلة بمدن الدلتا حتى دمياط تحوّل إلى طريق مهجور. الدخول فيه بالسيارة مغامرة أصعب من السير في الجبال من دون طرق ممهّدة. هذا الطريق مغلق تقريباً منذ سنوات وقد اضطرّ أهل المحلة لاستخدام طريق فرعي قديم.
هناك تفسير بأن المحلة مغضوب عليها بعد الإضرابات المتكررة. رغم أن ظاهرة المدن المغضوب عليها من النظام موجودة. فهو نظام انفعالي ويمكنه أن يعاقب بور سعيد مثلاً بسبب محاولة «أبو العربي» الشهيرة لاغتيال الرئيس حسني مبارك.
لكن الظاهرة أكبر، وتتعلق بأن كل ما هو مصري لم يعد أحد مهتماً به. لم يعد هناك من يهتمّ بالبناء. الأسهل بناء توكيلات. ولا شيء ناجحاً في مصر إلا التوكيلات في التعليم أو الصحة أو السياحة. الصناعة ماتت وعاشت بدلاً منها التوكيلات. فأزمة المحلة أنها مدينة أقامتها الرأسمالية المصرية لتكمل عليها طريق النهوض وبناء مدن تغيّر شكل الحياة. هذه المشاريع ماتت، بينما كان هناك إمكان لبناء شرم الشيخ، لأنها لا تخصّ المصريين. مصنوعة للأجانب، ويكاد المصري يدخلها بتأشيرة خاصة؟
لماذا تركت مدن مثل المحلة تموت وهناك إمكانات يمكنها أن تبني شرم الشيخ؟ لماذا يتدهور ويموت كل ما له علاقة بالمصريين في مصر، بينما ينمو ويزدهر كل ما له علاقة بالأجانب والتوكيلات؟
والثانوية العامة، لأنه نظام تعليم لعموم المصريين، يتدهور سنة عن سنة، وتحوّل إلى كارثة، حتى إن طلاب الأنظمة البريطانية والأميركية يتعاملون مع المواد المصرية (اللغة العربية والدراسات الاجتماعية) على أنها مواد درجة ثانية. هناك نظرة متدنية إلى كل ما هو مصري، وقبول بهذه النظرة والتكيّف معها. وكلما أردت شيئاً أفضل ستجد من يقول لك «ابعد عن المصري».