وائل عبد الفتاحالحاشية والشعب والرئيس بينهما. الحكاية على تعقّدها تشغل جلسات الكلام الحرّ على مستوياتها. من سيسقط قريباً من الحاشية؟ هل يثور الشعب؟ هذه الأسئلة تتجدّد كل يوم، لكنها في ظلّ عرض ختام لعهد طويل تكاد مصر تلمس آيات «خلوده»

مساجين بلا تهم وفاسدون محميّونماذا فعل مسعد أبو فجر؟ ما هي خطورته على الأمن القومي؟ المعروف أن مسعد أبو فجر كاتب من سيناء، نشرت له رواية اسمها «طلعة البدن»، يمكن اعتبارها الأولى عن بدو سيناء، وأسّس حركة «ودنا نعيش». حبكة مطالبها بسيطة وأوّلية: حياة كريمة بعد سنوات من نسيان الحكومة لسكان سيناء الأصليين، ثم معاملتهم كمشاريع أعداء. صرخة طلب الحياة لم تعجب النظام واختطفت مؤسس الحركة صاحب الملامح الرقيقة والقوية. البدوي يعيش حالياً أياماً قاسية ويواجه جريمة من القرون الوسطى، عندما كان الحكام ينسون معارضيهم في زنازين تحت الأرض.
أبو فجر مخطوف من أجهزة الأمن. مكان اختطافه معروف. وأجهزة الأمن تتحدّى مطالبات ٢١ منظمة حقوقية وبلاغ للنائب العام موقّع من أدباء وفنانين وصحافيين. الأجهزة ترسل رسالة واحدة متكررة: «اخبطوا رأسكم في الحيط».
يبدو الأمر أحياناً كما لو أن أجهزة الداخلية لا تملك القرار النهائي في ملف أبو فجر. هل هناك جهات أخرى أعلى (محلية أو دولية) هي صاحبة القرار النهائي؟ وإذا كانت هذه الجهات تريد شيئاً من أبو فجر، فلماذا لا تعلن عنه؟ لماذا لا تعلن تهمة حقيقية واحدة ضد مسجون سياسي يعترض بكل الطرق التي تحرك قلب الأنظمة الميتة ولا أحد يتحرك؟ موقف غريب مقارنة بحكايات تشغل كواليس النخبة في مصر عن هروب رجال أعمال وموظفين كبار متهمين في قضايا فساد. الظاهرة ليست جديدة. اختفت فترات، لكنها تعود مع محاكمات عامرة بالفساد المتعدد.
آخر الحكايات تشير إلى سفر رجل الأعمال هاني سرور (نائب في مجلس الشعب وعضو لجنة سياسات) إلى بيته في منتجع «كان» الفرنسي بعد لحظات من صدور قرار محكمة النقض برفض البراءة في القضية المعروفة إعلاميا بـ«أكياس الدم الفاسدة».
حكايات هروب أخرى رواها النائب طلعت السادات في سؤال موجه إلى رئيس الوزراء أحمد نظيف ووزير الداخلية حبيب العادلي عن اختفاء عبد الرحمن حافظ وعماد الجلدة. والأول هو الرئيس السابق للشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي ويحاكم بتهمة الكسب غير المشروع. أما الثاني (عماد الجلدة)، وهو الوكيل السابق للجنة الشباب في مجلس الشعب، فمتهم في قضية رشوة وكيل وزارة البترول، واختفى قبل يومين من صدور قرار محكمة جنايات القاهرة في 25 أيلول الماضي بتأييد سجنه لمدة 3 سنوات. رواة الأسرار يؤكدون أن الجلدة لم يعبر الحدود وأنه في إحدى المحميات الآمنة داخل مصر ينتظر قبول الطعن أمام محكمة النقض.
بين الهروب والأسر مسافة تختصر توتر الحاشية في لحظات الختام. ختام مؤجل لمصلحة «أبدية» تعيش مصر وقائعها يومياً. هكذا تصنع الحاشية أسوارها ليقفز (عليها) أصحاب الحظوة والقرب، ويحبس خلفها المغضوب عليهم الخاضعون لعمليات تعذيب ممهنجة. هذا هو الفرق بين حكاية أبو فجر والهاربين من محاكمات الفساد الحالية.
أبو فجر نموذج مختلف لم تعرفه أجهزة النظام في أهل سيناء. وهو، بحسب تعبير الأديب المصري رؤوف مسعد، «بدوي لا يعمل بالتهريب بل خبير كمبيوتر. لا يرعى الأغنام بل يكتب الأدب». المشكلة أنه من سيناء، الممسوكة بأيدي المخابرات لما لها من أهمية أمنية واستراتيجية قومية. ثم إن زواج المال والسلطة يتعامل مع سيناء باعتبارها أرضاً مباحة بطريقة تنتهك حقوق البدو التاريخية في أرضهم.
أما اختفاء المتهمين فهو اختبار النفوذ وشطارة استغلال الزمن للهروب من عقاب فردي. المحاكمات كأنها تزيح جيلاً لمصلحة جيل جديد، أي تجدد دماء دولة الفساد والنفوذ. هي تعبير عن توازنات القوى، ومع اتساع مدى الوافدين على نخبة حسني مبارك وابنه جمال لا بد من إزاحة واستبدال. وهناك الآن جيل جديد من المقيمين في محميات النفوذ. آخرهم المهندس محمود الجمال، حمو جمال مبارك، وقد نشرت الصحف أنه فاز بنصيب الأسد من أرض الطريق الصحراوي (32 ألف فدان)، بقية الأسود من قوائم أنسباء جمال مبارك وزملاء له في البيزنس (بينهم أحمد، ابن حسنين هيكل).
قوائم النفوذ متخمة، بينما أبو فجر وحده في زنزانة. يذوب جسده ويقول لزوجته عندما تطالبه بإنهاء الإضراب: «أضرب عن الطعام لا لكي أموت ولكن لأحيا كإنسان يرفض الذل والمهانة».

الحزب الحاكم يبحث عن «كيس الرمل»



«الحاشية حائرة»، قالها رجل غريب جالس في أحد المقاهي الشعبية. بدا مثقفاً رغم مظهره الرث. كلمة «حاشية» تعبير عن وجهة نظر بما يجري في المؤتمر الخامس للحزب الوطني الحاكم، حيث الحاشية مجموعة موظفين يتبعون الرئيس ويعتمدون على رضاه
حاشية الحزب الحاكم ماهرة وتلبي النداء وتمسح الخطايا. «الشعب» يرى الفساد في الحاشية لا في الرئيس. لكنها تبقى عاجزة وفاشلة في تحويل عبقرية الرئيس إلى سياسات يومية.
لماذا الحيرة؟ لأن المؤتمر مرحلة انتقالية. قلق وجودي يهزّ السلطة ولسان حالها يقول «نكون أو لا نكون». «حرب مواقع» تستنفر أنياب الغريزة المتوحشة من أجل حسن الختام. حاشية تهرب من مشاهد النهاية المرعبة والكوميدية في آن واحد. تابع الرجل الغريب الأطوار: «مصر عجوز، ليس لأن رئيسها عمره يتجاوز الثمانين، لكن لأنها محرومة من تجديد الهواء. جسدها خامل وأوكسيجينها قديم وعقلها...». لا يكمل العبارة، لكنه يشير إلى أن «هذا سر شيخوخة مصر: شبابها عواجيز وعواجيزها متصابون. يكفي تأمّل منصّة الحزب الحاكم لنكتشف أن هناك صراعاً بين الشباب والعواجيز. لكنه يبقى صراعاً مغلقاً فاقداً للحيوية».
الحاشية القديمة من قادة الحزب يتسوّلون الصبا بصبغات شعر مبالغ فيها، كأنهم يشعرون بخطر الشباب. خطورة شيب العواجيز لم يجدوا وسيلة لمكافحتها إلا بصبغ شعرهم.
ظهر حسني مبارك في مؤتمر الحزب بلا شعرة بيضاء واحدة، بينما ابنه جمال يغزوه الشيب، وعلامات الصلع تزحف بقوة إلى رأسه. الأب يبدو رقيقاً في الهجوم على المعارضة، بينما الابن عنيف بحقها، يهاجمها ويتهمها بـ«العودة إلى الوراء». أما مساعده الأول أحمد عز، فيصبغ عليه أوصافاً مضحكة مثل «مفجر ثورة التطوير»!
في كواليس الحزب، يفسرون كلام عزّ بأنه استعطاف لتهريبه من «مذبحة» قادمة لا محال. خطر دفع بالملياردير عزّ، وهو أمين تنظيم الحزب، إلى استجماع أوصاف الشرير من ذاكرته السينمائية: ضيّق عينه وغلّظ صوته ليبدو وحش الشاشة وهو يهاجم المعارضة.
أراد الحزب اختراع وجود للمعارضة. أخرجها مثل عفريت العلبة. صوّرها كأنها وحش يفتري على الحزب الوطني «المسكين». أين هي هذه المعارضة المتوحشة؟ أقامها قادة «الوطني» من موتها السريري. عفريت العلبة يخرج ليثبت أنّ في مصر معارضة ينزعج منها النظام، رغم أن المعارضة الحقيقية ليست في الأحزاب، بل في مواقع متفرقة في الصحف وتجمعات صغيرة في المجتمع المدني ومواقع الإنترنت.
مسرحية يديرها تفكير جهنمي يلغي صورة الدولة البوليسية التي تقهر المعارضة التي تتحوّل إلى ظالمة. والمصيبة أن المعارضة صدّقت نفسها وخرج مندوبوها من توابيتهم وردّوا في الصحف على الهجوم... وردودها أظهرتها كأنها كيس رمل لتدريب ديناصورات الحزب على الملاكمة.

حملات «الحياة السعيدة» للفقراء فقطالختان عادة بدائية موروثة. ارتبطت بمحاولة السيطرة على قوة المرأة السحرية. جرح عنيف يحرم المرأة من المتعة ويحوّلها إلى تمثال بارد يغطّي نهراً ساخناً... فالمرأة في مصر تذهب إلى القبر، من دون أن تعرف «الأورغازم».
أما الرجل، فيتزوج أكثر من مرة ولا يعرف الجنس. يظل يطارد خيالات في ذهنه. يشتريها من بيوت المتعة الرخيصة، ويبحث عنها في قنوات «البورنو».
الرجل في مصر، كلّما ابتعد عن لمس المتعة الحقيقية، وجّه قوّته باتجاه جسد المرأة؛ يرجوها فى البداية أن تغطّي شعرها، ثم تتّسع قطعة القماش لتصبح نقاباً. تشحن المرأة كلّ فتنها لتظهر في عينين تختزنان قوة وإغراء يتفوّقان أحياناً على سحر الجسد العاري. وكلّما غطى الرجل المرأة، ازدادت الجرائم الجنسية والأمراض النفسية وارتفع مؤشّر هستيريا مخيفة بلون الدماء. هكذا يطمئن الرجل فقط عندما يذبح عضو المتعة في المرأة. يذبحه وهو يتصور أنه مصدر الشرور والهياج الجنسي، ولأن المرأة، إذا لم تذبح متعتها، فسيصيبها مسّ من «جنون الجنس». وهم كبير يجعل 99 في المئة من بائعات الجسد في مصر، مختونات!
والخطيئة تتحرك من المخ، تترك في ذاكرة الطفل صورة قاسية تجعل الجنس مخيفاً ومرعباً، بالإضافة إلى أنه ممنوع. على السرير السري، تكتشف الأم أنّ الختان... قاتل ولن يحمي ابنتها. ظنّت أنها إذا سارت على خطى أمها وجدتها فستعبر بابنتها إلى «برّ الأمان». لكن الطفلة لم تفقد البهجة فقط، بل هي تنزف داخل جسدها وتنتظر الموت. وبدلاً من أن يكون العبور إلى عالم المراهقة ثم الأنوثة مبهجاً وسعيداً، يتحوّل إلى كوابيس دموية.
هكذا تبدو الحملات الأخلاقية لـ«المجلس القومي» فاشلة. جمهورها من الفقراء يهزمونها. هي حملات موجهة ضدهم كما يترسخ في أذهانهم. ترسم «كتالوغ» الحياة السعيدة لهم وحدهم. سعادة تطاردهم فيها تعليمات الحكومة وتترك صائدي المتع والثروات المنفلتة.
حملة أخرى تملأ الشوارع والشاشات عنوانها «احسبها صح... تعيشها صح». الموضوع: التوفير الذي يحقق حياة أفضل. أحد أبطالها: موظفة قلّلت من إسرافها في شراء الدواء فاشترت كتاباً لها ولابنتها! الحملة موجهة أساساً لمن ليس عنده خيار الادّخار، بينما تتجاهل أصحاب الثروات المتوحشة.
هل هي أصلاً حياة سعيدة لكي «تعيشها صح»؟ هي حياة متعها مقتولة قبل أن تولَد، أو بالتعبير المصري «متعة مختونة».