عبد الحليم فضل الله حدد البيان الوزاري للحكومة الحالية مهمات إصلاحية عدة، متبنّياً ما يشبه التسوية بين مقاربات متعددة. وهناك من يحاول اليوم إعادة إنتاج الصورة بخلفية وحيدة، هي برنامج الحكومة المقدم إلى مؤتمر باريس 3 والمقترحات الواردة في موازنات 2006، 2007، 2008، متجاهلاً ما تراكم من خطط وبرامج على مدى الأعوام العشرة الماضية، ومتخطّياً الإضافات التي أوردها البيان الوزاري، وخصوصاً منها مساندة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع عمليات الإنتاج وتبنّي مقاربة اجتماعية أكثر وضوحاً. ومن المعروف أن ورقة باريس 3 والموازنات الثلاث، اتخذت من ظروف الانقسام السياسي غطاءً لها، وأخلّت بالمعادلة الدقيقة التي رسمت بعد الطائف، حين أوكل إلى فريق واحد أمر وضع وتنفيذ السياسات الاقتصادية العامة، شرط أن يتم ذلك في إطار توافق يحفظ الاستقرار ويضمن عدم المساس بالتوازن الداخلي. ومع أنّ هذه المعادلة كرّست النزعة المضادة للإصلاح، فهي أهون حالاً من محاولات الانفراد التام التي عطّلت آليات التوافق الداخلي في العامين المنصرمين.
نعم، يجب إعادة النظر بمرجعية الإصلاح المالي والاقتصادي الاجتماعي في لبنان، وتحديداً مرجعية برنامج لبنان الاقتصادي الذي رفع إلى مؤتمر المانحين في باريس بداية 2007، لكونه لم يحقق أياً من الأهداف المرسومة، ولأن مبادئه لم تعد ملائمة في ظل التحولات الداخلية والخارجية الكثيرة.
فقد فشلت الحكومة في تحقيق تقدم كبير في أيّ من المسارات الستة التي قام عليها البرنامج، والمتصلة بتحفيز النمو، وإصلاح القطاعين الاجتماعي والمالي، ومواصلة سياسات التثبيت النقدي، وتوظيف المساعدات الخارجية للجم تصاعد الدين. ومع أن تقرير تقدم العمل بشأن تطبيق تعهدات باريس 3 تحدث عن إطلاق أكثر من نصف المبادرات الإصلاحية، ومعظمها أعدّته حكومات سابقة، فإنّ ذلك لم ينعكس على النشاط الاقتصادي الذي بقي أسير الشروط الخارجية الواقعة خارج سيطرة السياسات العامة. ودلائل الفشل على صعيد تنفيذ البرنامج كثيرة. فبورصة بيروت لا زالت صغيرة جداً مقارنة بدول المنطقة، وبيئة الأعمال بقيت على حالها تقريباً، وخصوصاً في مجالي تحسين ظروف عمل القطاع الخاص وخفض كلفة الإنتاج. وإلى الآن، لم تنظّم الأسواق الداخلية ولم تُكبح الممارسات الاحتكارية التي برزت قوتها أثناء ارتفاع الأسعار العالمية، فتمكنت من اقتناص عدة نقاط لمصلحتها، لتجعل لبنان أحد أكثر دول المنطقة تعرّضاً للتضخّم.
وحتى الآن لم تبدأ اللجنة الوزارية المكلّفة وضع استراتيجية اجتماعية متوسطة الأمد بممارسة مهماتها، وفي وقت يعاني فيه الإنفاق الاجتماعي من انخفاض الكفاءة، ويتناسب توزيع التجهيزات الاجتماعية على المناطق عكساً مع خريطة الفقر. في حين أن نظام التقاعد والحماية الاجتماعية الذي أقرّته اللجان النيابية سابق على باريس 3 ويرتبط إقراره بأزمة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أكثر منه بتبنّي مقاربة اجتماعية جديدة. ولا يُعدّ التعثّر على صعيد الإصلاح الاجتماعي الشامل الذي اعتبره البرنامج شرطاً لنجاح الإصلاحات الاخرى، دليلاً على الإخفاق بقدر ما يشير إلى وجود أجندتين لباريس 3 ظاهرة سيُهمَل جزء كبير منها، ومستترة تمثّلها التزامات لبنان تجاه صندوق النقد الدولي.
أما اخطر الإخفاقات فهو عجز الحكومة عن تحقيق أيّ من توقعات «السيناريو الماكرو اقتصادي» الذي يعدّ تكثيفاً لأهداف البرنامج وغاياته. وبغض النظر عن البراعة في زيادة حجم الفوائض الأوليّة، فإن النتائج المالية المحققة تثبت بما لا يدع مكاناً للشك عجز السلطة المالية عن قلب دينامية الدين العام نزولاً كما جاء في ورقة باريس 3. وبناءً على تقديرات مسوّدة مشروع موازنة 2009، سيصل الدين العام الإجمالي إلى حوالى 49 مليار دولار في نهاية العام المقبل، أي ما يوازي 182% من الناتج المحلي القائم، في مقابل 157% أوردها السيناريو، وستبلغ نسبة كلّ من العجز وخدمة الدين العام والنفقات الإجمالية إلى الناتج 11.85% و15.5% و37% على التوالي، في مقابل 5.9% و11.9% و28.7% حسب توقعات السيناريو المذكور. هذا مع العلم أن الحكومة استثمرت جيداً في ضريبة التضخم، فتمكنت من زيادة وارداتها وخفض نفقاتها مستفيدة من النمو الاسمي للناتج المحلّي.
وبمعزل عن المضمون والنتائج، فإن برنامج باريس 3 وتعهداته لم تعد تمثّل دليل عمل جيد في ظلّ العاصفة المالية العالمية التي أطاحت فرضيات طالما آمنت بها الحكومة اللبنانية ورفعتها إلى مصاف المسلمات، ومنها: الثقة بقدرة الأسواق المالية الدولية على توفير تمويل لا حدود له، والثقة بنيّات الحكومات الغربية واستعدادها لمدّ يد العون عند الحاجة، والإيمان المطلق بمبادئ التحرير الاقتصادي القائمة على تقليص حجم الدولة وخصخصة موجوداتها، والتعويل على قدرة السياسة النقدية على صنع المعجزات.
لم يعد مقبولاً التمسّك بمبادئ باريس 3، دون مراقبة ما يجري حولنا. فالعالم برمّته يتهيّأ لمراجعات جذرية ربما آلت إلى إحياء دور القطاع العام، والانتقال من نمط نمو قائم على الاستهلاك المموّل بحركة الأموال القصيرة الأجل، إلى نمط نمو يستند إلى الاستثمار المموّل بالادخار أو بتدفق رؤوس الأموال الطويلة الأجل، وقد يصل الأمر إلى التخلّي عن التفويض الحصري الذي منحته رأسمالية ميلتون فريدمان ـــــ رونالد ريغان للسلطة النقدية، لمصلحة السياسات الشاملة والمتكاملة.
قد لا يكون بوسع الحكومة الحالية تحقيق الكثير من متطلبات الإصلاح، لكن بمقدورها القيام بأمرين: من جهة التكيّف مع التحوّلات العالمية والاستعداد للمخاطر الناجمة عنها، ومن جهة ثانية وضع ركائز جديدة للتوافقات الوطنية على مسائل الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي، ولا بأس بمراجعة السياسة النقدية التي أخفقت في لجم التضخم وسمحت بحدوث تقلّبات حادة تجاه العملات الرئيسية في العالم، فيما عدا الدولار طبعاً. وهناك ما يكفي من الوقت لفعل ذلك.