كل لبناني سيكون مضطراً إلى تسديد 1050 دولاراً عام 2009، عبر الضرائب والرسوم والأتاوات «المقوننة»، لتسديد الفوائد المتراكمة على الدين العام، التي تذهب بمعظمها إلى خزائن الأثرياء وجيوب حماتهم السياسيين
محمد زبيب
يُفاخر البعض بأن ودائع المصارف اللبنانية بلغت أكثر من 75 مليار دولار حتى نهاية أيلول الماضي، إلا أنه لا أحد يأتي على ذكر كيفية توزّع هذه الودائع، ومصادر تراكمها وعدد الذين يملكونها... فالإحصاءات، التي ترفض الجهات الرسمية إعلانها، تكشف أن أكثر من 45 في المئة من هذه الودائع (أي حوالى 34 مليار دولار) مودعة في أقل من 0.8 في المئة الحسابات المصرفية، وبما أن القاعدة تفيد أن الثري كلما ازدادت ثروته ازداد عدد حساباته المصرفية، فإن هذه الإحصاءات تسمح بالاستنتاج بأن هذه الكمية الضخمة من الأموال تملكها أقل من 500 أسرة في لبنان، أي إن الثروة تتركز لدى 0.05 في المئة من الأسر اللبنانية!

الفوائد مصدر إثراء

وتُعدّ الفوائد على الدين العام أحد المصادر الرئيسة لتراكم هذه الثروات، إذ إن 4 ملايين لبناني تقريباً أُجبروا على تسديد أكثر من 38 مليار دولار إلى أقل من 2500 فرد ثري ومصرف محظي وسياسي فاسد ومستثمر أجنبي (العدد للدلالة فقط اذ ان المستفيدين الفعليين قد يكون بالمئات فقط)، تحت عنوان خدمة هذا الدين منذ عام 1993 حتى عام 2008، بمعنى أن كل لبناني اضطر إلى تسديد أكثر من 9500 دولار كمعدّل وسطي، في هذه الفترة، لتمويل زيادة ثروة كل واحد من هؤلاء المستفيدين بأكثر من 15.2 مليون دولار كمعدّل وسطي أيضاً، في السنوات الـ15 الماضية (طبعاً المعدّل الوسطي سيزداد إذا جرى احتساب الثروات على أساس الأسر لا الأفراد).

زيادة خدمة الدين

تبشّر حكومة «الإرادة الوطنية» في مشروع موازنتها لعام 2009 بالمزيد من عمليات إعادة التوزيع العكسية، أي جباية المزيد من الأموال من جيوب الفقراء وذوي الدخل المحدود ومتوسطي الحال، الذين يمثّّلون الأغلبية الساحقة من اللبنانيين المقيمين، لتمويل زيادة ثروات القلة القليلة من الأسر والمؤسسات التي تتحكم في السلطة وتمنع أي اتجاه إصلاحي دفاعاً عن مصالحها... فهذا المشروع ينطوي على زيادة في الإيرادات الضريبية وغير الضريبية من 5551 مليون دولار في هذا العام إلى 6766 مليون دولار في العام المقبل، أي إن الحكومة تسعى لجباية ضرائب ورسوم أكثر بقيمة 1215 مليون دولار من مصادر عدّة أبرزها الرسوم على البنزين، التي باتت تبلغ حالياً أكثر من 7 آلاف ليرة على كل صفيحة... وهذه الزيادة الكبيرة في الإيرادات لن يجري توجيهها لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين بحسب ما تقتضي وظيفة أي حكومة، بل ستضخّ في جيوب المصارف والأثرياء والمستثمرين عبر زيادة الاستدانة وتسديد فوائد أكثر من السابق على هذه الاستدانة، إذ إن خدمة هذا الدين سترتفع في العام المقبل من 3084 مليون دولار إلى 4182 مليون دولار، أي بزيادة 1098 مليون دولار عن العام الماضي، منها حوالى 750 مليون دولار ستترتّب على خدمة ديون جديدة تنوي الحكومة الحصول عليها، ليرتفع مجمل الدين الحكومي، المعترف به رسمياً، إلى أكثر من 50 مليار دولار.

ثراء أكثر عام 2009

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن كل لبناني سيسدّد 1050 دولاراً وسطياً في العام المقبل ليزيد ثروة كل واحد من المكتتبين في الدين الحكومي بقيمة 1.7 مليون دولار وسطياً، وذلك من أصل 1691 دولاراً وسطيّاً ستُجبى من كل لبناني، أي إن 62 في المئة من مجمل الإيرادات الضريبية وغير الضريبية ستستخدم في تمويل زيادة ثروات القلّة، فيما النسبة الباقية (38 %) ستذهب لتمويل قنوات الإثراء الأخرى الكامنة في أبواب الإنفاق الجاري، الذي يتّسم بدرجة عالية جداً من الهدر والسرقة وأوجه الفساد الأخرى والمنافع السياسية. ولا تقتصر إعادة التوزيع العكسية على الفوائد المسددة على الدين العام والإنفاق الحكومي، بل تتجاوز هذه الأدوات «الجائرة» بكثير لتصل إلى النظام الضريبي نفسه، إذ إن مشروع الموازنة للعام المقبل، كما موازنات السنوات السابقة، يرتكز على الرسوم والضرائب غير المباشرة التي تكافئ الأثرياء وتعفي عائداتهم الريعية من أي تكليف ضريبي جدي (الربح العقاري والمضاربات والتوظيفات المالية)، فيما تعاقب المنتجين والفقراء وتدمّر كل فرص صمود الطبقة الوسطى، فحصّة الرسوم والضرائب غير المباشرة (بما في ذلك عائدات الاتصالات ورسوم الطوابع وغيرها) تبلغ في هذا المشروع حوالى 4819 مليون دولار، أي ما نسبته 72 في المئة من مجمل ايرادات الموازنة، علماً أن الضرائب المباشرة (الضرائب على الدخل والأرباح ورؤوس الأموال والأملاك) تصيب بطريقة خاصة المنتجين ومتوسطي الحال، ولا سيما أن الضرائب على الرواتب والأجور تبلغ أكثر من 200 مليون دولار، وهذا النوع من الضرائب لا يمكن التهرّب منه، فيما معدّلات التهرّب الضريبي مرتفعة جداً لدى أصحاب الثروات والشركات والمكتومين، ويقدّر معدّل التهرّب العام بأكثر من 65 في المئة من مجمل العائدات الواجب تسديد الضرائب عنها فعلياًَ، وهذا يعني أن أصحاب الثروات والاحتكارات والمضاربين وسواهم لا يسددون إلا 35 في المئة مما يستحقّ عليهم فيما الفئات الضعيفة تسدد كل ما يستحقّ عليها من ضرائب على الأجور أو على الاستهلاك، فينتهي الأمر يأن الأثرياء «يشفطون» أموال الفقراء كلها ويضيفون إليها أموالاً يتهربون من تسديدها.