وائل عبد الفتاحأبوّة الدولة كانت على المحك هذا الأسبوع: جلد طبيب في السعودية، وتمرّد بدوي في سيناء، والمعمّرون يكسرون الأرقام القياسية في السلطة، والحرس الجديد يوزع صكوك الملكية العامة. ماذا فعلت أجهزة الأب الخالد في كل هذه التحديات؟

شركة «الحاج وأولاده» لتلبية طلبات الحشود اليتيمةالحاج سيّد عاشق مخلص للفريق. توحّد معه إلى درجة يصعب فيها الفصل بين الحاج والنادي. تمازج الكيان العام مع صاحب الأفضال في تركيبة دفعت إلى السطح اقتراحاً من نقطتين: الأولى أن يسمى النادي المصري باسم الحاج سيّد، والثانية أن يتولى ابنه إدارة النادي.
أصحاب الاقتراح من جماهير النادي المجنونة به والمخلصة له. يخافون على الكيان المحبوب من الانهيار بعد غياب الأب. ويربطون مصيره باسمه (تخليداً لدوره) ويبحثون في عائلته عن خليفة من روحه ورائحته.
جماهير «المصري» شعرت باليتم بعد الحاج، وبحثت عن سند في أولاده. وهو ما حدث بعد رحيل جمال عبد الناصر تقريباً. لم يكن موته ميتة رئيس دولة. لكنه أب، زعيم، تتجسد فيه روح الأمة، هو منحة من السماء. والجماهير هي حشود تدافع عن مصير بلدها (ناديها) المعشوق، وتحاول استلهام الأب الراحل في عائلته.
الحشود اليتيمة لا تزال تشعر باليتم، وتريد عودة الأب الخالد. هذه ثقافة سارية ومسيطرة من وراثة الحاج سيّد في النادي «المصري» إلى سيناريو وصول جمال مبارك للحكم خلفاً لأبيه. الاختلاف فقط أن الرئيس مبارك ليس مقنعاً كأب ملهم تتوحد فيه مؤسسات الدولة. هو يمارس الدور، لكنه ليس كعبد لناصر، إلّا أنه يريد (هو أو عائلته) الاستفادة من ذهنية تقبل بمنطق إدارة «الحاج وأولاده» للدولة.
بهذه الذهنية (البحث عن أب خالد) ورث نظام مبارك احتكار السلطة والثروة، ومنع النقد أو الاقتراب. وضع نفسه في مرتبة قداسة مدهشة، تحميها أجهزة أمن شرسة، وصفقات سياسية مع المعارضة المستأنسة. هذا الوضع أوقف نمو المجتمع وجعله أسير الشيخوخة السياسية ومنطق المماليك في تقسيم التركة.
ولأن العدل من صفات الأب، خرجت مفاجأة توزيع أصول الدولة على الشعب. الرئيس قالها غامضة في المؤتمر الأخير للحزب الحاكم، وترك التبشير بها للابن ومجموعته. «عربون محبة»، كما يقول المصريون. إنه مشروع لتوزيع صكوك ملكية على 41 مليون مصري. خصخصة شعبية تطيّب خاطر الشعب، الذي رأى ملكيته العامة تباع أمام عينه برخص التراب، وليس أمامه إلا اللعنة في السر على «حرامية البلد».
اليوم سيتسلّم الشعب ممتلكاته وتوزع الصكوك في مكاتب البريد والبنوك ومقارّ خاصة لينال الشعب حقه من بيع ممتلكاته. شيء أقرب إلى الفيلم الهزلي «عايز حقي» (سيناريو طارق عبد الجليل وإخراج محمد ياسين)، بطله اختنق من قلة إمكاناته المالية وعثر على مادة في الدستور المصري تتحدث عن الملكية العامة، وقاد حملة لبيع هذه الملكية وتوزيع الحقوق على المواطنين.
الفيلم تحوّل من حيّزه الساخر إلى واقع على يد المبشرين بتوزّع الحق على الشعب. وهي تجربة فشلت في روسيا وتشيكيا لأنها كانت مدخلاً لتسريع الخصخصة من دون تخطيط وظهور طبقة المحتكرين الكبار.
الفكرة وصلت متأخرة لتخدم أفكاراً غير معلنة، معتمدة على إغراء التصور الساذج بأن الملكية العامة تعني توزيع الأنصبة، وهو ما يعني إلغاء فكرة الدولة الحديثة وإحياءً للدولة القبيلة كما هي في بعض دول الخليج وليبيا، التي توزع فيها حصص البترول بطريقة مثيرة للضحك ومؤجلة للغضب من احتكار الثروة.
التبشير بالصكوك يوحي بأن النظام الحنون التفت أخيراً إلى الشعب الفقير اليتيم. فكرة عطوفة. وعهد جديد يغسل سنوات من الخصخصة نُهب فيها 400 مليار جنيه (80 مليار دولار) من أموال الشعب في صورة عمولات البيع السهل لشركات القطاع العام.
وبالنسبة إلى نقّاد النظام، تبدو فكرة صكوك الشعب خطوة عكس السير، بعدما أدركت الرأسمالية ضرورة السيطرة الجزئية على الشركات الكبرى مع إعصار الأزمة المالية.
الحشود اليتيمة تذكرتها دولة الأب فجأة بعدما تركتها في منتصف الطريق تتسوّل حياة كريمة. الحشود حلمت بالثراء من صكوك الملكية العامة وجهزت مشاريع للخروج من نفق الفقر الطويل، لكن وزير الاستثمار، محمود محي الدين، المسؤول عن المشروع، قال معلومتين هامتين. الأولى: أنه (الوزير) سيترك مسؤولية إدارة أصول الدولة ويعود إلى دوره السياسي. والثانية أن الصكوك لن تصل غالباً إلى ألفَي جنيه (800 دولار) كما تردد. أي إن الدولة تتخلى عن فكرة إدارة أصولها. هذه المرة من دون تبعات (معاش مبكر ومراعاة أبعاد اجتماعية، فالشعب هو الذي يبيع لا الدولة».
الصكوك ستحرّك المجتمع إلى مزيد من استقطاب الطبقات، خارج سيطرة الدولة التي حافظت على أبوّتها برعاية خفيفة لجرحى التحوّل الاقتصادي. الآن فعل النظام ما عليه وفكّك الدولة إلى صكوك تملكها الحشود اليتيمة. ملكية تربك المجتمع وتثير جدلاً سياسياً.
هل تذكرت الدولة أُبوّتها فجأة أم أنها إعادة تأسيس لشركة «الحاج وأولاده»؟ الشركة تلبي الآن كل الطلبات. تفتح الباب للمعمرين، واحتفلت الأوساط البرلمانية باستمرار الدكتور فتحي سرور في مقعده على رأس مجلس الشعب للعام الـ19 على التوالي. معجزة بكل المقاييس لم تحدث إلا في الدولة البلشفية في الاتحاد السوفياتي. دولة معمرين تضرب طبقة حكامها الأرقام القياسية في العمر الطويل.
سرور حطّم رقماً جديداً في الأسبوع نفسه الذي بشّرت به مجموعة جمال مبارك بالصكوك.
وغالباً هذه محاولات توسعة نشاط شركة الحاج وأولاده. وإعلانها عن تلبية كل الطلبات للحشود اليتيمة والمماليك المستبدة.

«لوددت أن أكون فيليبينيا»



العصيان الحالي للبدو مرعب للأمن، يكسر هيبته وسيطرته على سيناء. انتقام مفزع على أخطاء الإهمال والتعامل المهين. لحظة حاسمة تحوّل بعدها البدو إلى «مشروع أعداء» يقلق القاهرة
«إنه في الأعالي. ولن تستطيعوا الوصول إليه إلا بطريقتنا»، هكذا قال الوسيط لضابط رفيع المستوى في وزارة الداخلية بعد مطالبته بلقاء كبير بدو سيناء. والكبير يسكن في قلعة خاصة خارج سلطة الشرطة، وفي جبال لا تملك أجهزة الدولة المصرية خريطة دروبها المجهولة.
اصطحب الضابط طاقم مساعديه وسلم نفسه تماماً لرجال كبير البدو. استقلوا في البداية سيارات جيب أوصلتهم إلى نقطة انتهت عندها المرحلة الأولى من الرحلة إلى القلعة. المرحلة الثانية جرت بدراجات بخارية تابعة لمجموعة أخرى. وعندما انتهت حدودها بدأت رحلة سير على الأقدام حتى مقر الكبير المتربع على الأرض وأمامه سلاح آلي، وتحيطه فرقة حماية متأهبة للقتل في أي لحظة.
هذه حكاية حقيقية. تجربة أليمة من الطرفين. الأمن المصري يرى البدو جماعة خارجة عن السيطرة (مشاريع خيانة)، والبدو يرون قوات الأمن طلائع «غزو مصري» ينتظرون يوم رحيله. النظرة ليست عامة، لكنها الغالبة. الدولة لم تستوعب عبر عصورها بدو سيناء، هي محترفة في إدارة دلتا النيل وما حولها، لكن سيناء غامضة. لغز يحتاج إلى خبرات جديدة.
ظلت سيناء في عهدة العقلية الحربية فترات طويلة. هدفها الأمن وإقامة جسور مع بعض قبائل البدو. وكان من السهل على الاحتلال الإسرائيلي أن يقيم علاقة مع قبائل أخرى وجدت خيط مصلحة مشتركة مع المحتل. وهكذا ظل البدو أسرى لاستقطاب بين الوطنية والخيانة. عالم مغلق، خارج حسابات الدولة، مطرود من رحمتها، ومستبعد من مشاريعها، وخصوصاً أن الدولة قررت أن تحوّل سيناء إلى حديقتها الخلفية. اختارت شرم الشيخ لتصنع منها سويسرا في قلب مصر.
منتجعات في قلب الأرض المنسية خلقت دائرة واسعة من الاستفزاز حول البدو. تريدهم مصر أن يحموا حدودها المفتوحة من دون مقابل. والبدو يبحثون عن أمان الرحّل الذين يعيشون بقانونهم العرفي.
والغريب أنه في قضية أخرى تماماً، وفي قلب القاهرة، تطرح بطريقة أخرى العلاقة بين الدولة المصرية والبدو. لكن هذه المرة المقصود هو الدولة السعودية، التي يراها المصريون في الأزمات «شعباً من البدو الرحّل». المجتمع المصري يرى الدولة ضعيفة في مواجهة إهانات البدو في السعودية. وحسني مبارك لم يكلف خاطره ليتدخل في قضية جلد الطبيب المصري.
الغاضبون من جلد الطبيب هتفوا «يا ريتني كنت فيليبينياً. كنت لاقيت حكومة تحميني» وكأنهم يردون على مقولة شهيرة في تراث الوطنية المصرية صاحبها أحد زعماء الاستقلال، مصطفى كامل، الذي قال: «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصريّاً».

عندما ظهر سعد الصغير لينافس المرتزقةهدية السماء لم تكن سوى لقطات مصورة لنجم في سوق الغناء اسمه سعد الصغير يغني في عرس شعبي بصحبة راقصة. وصلة بلا سقف في الحركات والكلمات توافق مزاجاً متمرداً على الأخلاق السائدة.
تلقّف صنّاع الحكايات الهدية بحفاوة ودفعوها إلى الصفحات الأولى في كل الصحف: القبض على سعد الصغير واتهامه بتصوير فيديو فاضح. العناوين كلها دارت حول هذا المعنى، الذي اكتملت إثارته بإضافة بهارات تقليدية في هذا النوع من الحكايات. ولم تكن الإضافة سوى راقصة مغمورة قبضت عليها أجهزة الأمن في كمين ليلي بعد خروجها من محل عملها: بار في وسط القاهرة.
الهدية جاءت لتغطي على آثار الرعب التي خلّفتها حكاية أخرى، وهي حرق مقر حزب «الغد». الحكاية من الطراز القديم جداً. لكن الموقع هذه المرة هو الخطير: قلب القاهرة. وبالتحديد في بناية مشهورة باسم حلواني سويسري اسمه «جاكومو غروبي» أقام منذ 119 سنة مطعماً ومقهى على النموذج الفرنسي. تحوّل إلى ملتقى الصفوة ونجوم المجتمع.
«غروبي» رمز حميمي في قلب العاصمة. عندما تصاعد الدخان الأسود من شرفته أثار الرعب بدرجة أكبر قليلاً من رغبة صنّاع الحكايات. ذكّر بحريق القاهرة 1952 وربما حرك الرعب من حريق منتظر منذ ما حدث في مجلس الشوري والمسرح القومي.
الحكاية كانت أبسط: طرد آخر لأيمن نور من حزب الغد. والسيناريو تكرر في أكثر من حزب (الأحرار ومصر الفتاة والوفد). أبطاله ضباط متخصصون في تدمير الأحزاب، لهم في كل حزب رجال ومرتزقة يتحركون بأوامر مباشرة أو غير مباشرة، مبرمجون على تحويل الأحزاب إلى كيانات مكتومة الصوت ومشلولة، معاركها الداخلية أقوى من معركتها مع الحزب الحاكم.
الآن وصلت فرقة التدمير إلى أقصى حالات التطرف، قررت السماح بحرق حزب. قنابل المولوتوف طارت وحوّلت ميدان طلعت حرب إلى ساحة استعراض للبلطجية والمرتزقة وأحاطت اسم «غروبي» بألسنة النار.
وكان لا بد من «فضيحة» بمعنى يقول إن «فرقة الأخلاق» في الشرطة لا تقل يقظة عن فرق مكافحة الأحزاب. الأخلاق المحافظة هي الغشاء الذي ترى من خلاله جماهير المتفرجين أن «الجميع بلا أخلاق». هكذا دفعة واحدة: فليذهبوا إلى الجحيم والحكومة تحمينا من سعد الصغير، كما تحمينا من أيمن نور والمتصارعين عليه في موقعة «غروبي».