التهدئة في دائرة حسابات إسرائيل أكثر حيويةً مما تحاول إظهاره في مواقفها التي توحي بالتوثّب إلى نسفها. هي في الواقع الوجه الآخر لعجزٍ لا تسمح المكابرة الإسرائيلية بالاعتراف به. كما أنها المحطة التي تسبق خيار الذهاب نحو المجهول
محمد بدير
لا تُحسد إسرائيل على المعضلة التي تعيشها في مقاربتها لموضوع التهدئة. فهي تدرك، من جهة، أن الإبقاء عليها هو السبيل الوحيد لتحقيق الهدوء الأمني في المستوطنات والتجمعات السكانية القريبة من قطاع غزة. كما أنها تعلم، من جهة أخرى، أن تفجيرها يعني في حده الأدنى العودة إلى حالة الاستنزاف اليومي التي عايشتها تلك المناطق لسنوات، إضافة إلى ما تنطوي عليه من احتمالات الانزلاق نحو مواجهة واسعة قد يجد الجيش الإسرائيلي نفسه فيها مستدَرجاً إلى الغرق مجدداً في وحل غزة.
ثمة مفارقتان إسرائيليتان في قضية التهدئة. الأولى هي أن تل أبيب لم تكن لتوافق عليها لولا أنها تقرّ ضمناً بأن الأثمان المترتبة على خيار المواجهة الواسعة أشد وطأة من إمكان تحمّلها سياسياً وشعبياً، علماً بأنه ما من ضمانة لأن تفضي نتائج مواجهة كهذه إلى وقف الصواريخ بالضرورة، ناهيك عن تحقيق أهداف أكثر طموحاً ــ كالقضاء على «حماس» أو زعزعة أركان حكمها في غزة.
أما عن البدائل التي تقع تحت سقف المواجهة الشاملة، فمعروفٌ أن التهدئة جاءت تتويجاً لسياق توتيري تصاعدي استنفدت إسرائيل خلاله كل ما أمكن لعقلها العسكري اجتراحه من ارتكابات وممارسات قبل أن ينتهي بالفشل في تطويع إرادة المقاومة لدى فلسطينيي القطاع ودفعهم إلى توسّل الأمن بالاستكانة للجبروت الإسرائيلي.
المفارقة الثانية هي أن الجهة التي كانت عرّابة التهدئة في إسرائيل ليست سوى الجيش ومِن ورائه وزير الدفاع، إيهود باراك. هي مفارقة لأن وظيفة الجيوش عادة، وبالأخص في إسرائيل، هي تأمين العلاجات العسكرية للحالات السياسية والأمنية المستعصية، لا التوصية بمهادنتها والعمل في سبيل ذلك. تشهد على ذلك المقولة الشعبية الرائجة في إسرائيل: «دعوا الجيش ينتصر»، والمقصود بها دعوة السياسيين إلى عدم جعل حساباتهم الضيقة حائلاً دون تفعيل الجيش لكامل قدرته طلباً للحسم.
وعندما تكون المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بشقّيها السياسي والتنفيذي، هي من يتبنّى التهدئة ويروّج لها ويدعو إلى الحفاظ عليها، فإن لذلك دلالات تتجاوز حسابات السياسة وأولوياتها. ويمكن القول إن هذه المفارقة تزداد حدةً في ضوء إقرار المؤسسة نفسها بأن أحد المفاعيل الأساسية للتهدئة هو إتاحة الفرصة للمقاومة الفلسطينية للعمل على مراكمة قدراتها العسكرية والوصول بها إلى مستويات باتت تشكل معها تهديداً استراتيجياً فعلياً على إسرائيل. بل يمكن الإشارة، استطراداً، إلى أن من أبلغ مؤشرات العجز الإسرائيلي حيال غزة هو اختيار السماح لقوة المقاومة فيها بالتحول إلى خطر استراتيجي (من خلال استغلال التهدئة) في مقام المفاضلة بينه وبين شن حرب وقائية بهدف إجهاضه، كما تقتضي العقيدة الأمنية لإسرائيل.
في ضوء ما تقدم، تصبح المواقف التصعيدية الإسرائيلية الأخيرة أكثر وضوحاً في الخلفيات والأهداف. فهي، باختصار، مزيج من المناكفات الشخصية التي تتسم بها الحلبة السياسية في إسرائيل والمزايدات الحزبية التي يقتضيها الموسم الانتخابي. وهي طبعاً لا تخلو من بعدٍ وظيفي يرتبط بتكتيك اللعب على حافة الهاوية. أي محاولة الإيحاء للمقاومة الفلسطينية، وحاضنتها الشعبية عموماً، بأن إسرائيل على وشك تحطيم قواعد اللعبة واتخاذ قرارات عسكرية كبرى رهاناً على أن يدفع هذا التهويل فصائل المقاومة إلى مراجعة حساباتها وينعكس انكفاءً لديها نحو إطار التهدئة من جديد.