القاهرة | بعد هدنة إجبارية أعقبت «ثورة يناير»، عادت سيَر وحكايات التعذيب والانتهاكات الجسيمة في السجون وأقسام الشرطة إلى الواجهة مرة أخرى، وذلك على لسان الخارجين منها، وحتى ضباط الشرطة في الشوارع والكمائن الأمنية.لم تقتصر الانتهاكات الأمنية على أنصار جماعة «الإخوان المسلمين» أو مؤيديهم، بل امتدت أيضاً، تحت تأثير «نشوة القوة» التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية في مصر عقب «30 يونيو»، لتصل إلى مواطنين قادهم حظهم العاثر إلى التصادم مع سيارات ضباط شرطة، أو التشاجر مع أشقاء أحد منتسبي أجهزة الأمن، ليسجل الأحد الماضي وحده 4 حالات قتل مواطنين على أيدي منتسبي الأجهزة الأمنية، لا لشيء إلا لغرور القوة لديهم.

ما يجري اليوم، يختلف عما شهدته مصر خلال عام ونصف عام من صدام الدولة مع «الإخوان». وهي الأحداث التي نجحت السلطة في تقديم مبرر لها، باعتبار «الإخوان» خصماً للجميع، وأن التعامل معه بهذه الصورة «ضرورة المرحلة»، وهو ما أسهم في تليين مواقف المواطنين من هذه الممارسات، وخصوصاً أن «الجماهير» لا تجد مشكلةً، طالما استطاعت السلطة تكريس عدو مشترك تحاربه، وجعلته شماعةً تبرر عبرها ممارساتها. وهي كانت بذلك، تحظى بدرجةٍ عالية من التعاطف والتضامن، إلا أن تمدد الممارسات القمعية، ووصولها إلى عموم الشعب، أججا مشاعر الغضب والنقمة على وزارة الداخلية مرةً أخرى، وخصوصاً أن ممارسات وانتهاكات الداخلية هي صاعق التفجير الرئيسي لثورة 25 يناير2011.
تقرير «مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف»، أحد أهم المراكز الحقوقية في مصر، رصد خلال شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، 31 حالة تتوزّع ما بين «تعذيب وقتل وهتك عرض». ومن أبرز الحالات التي ذكرها، مقتل الناشطة شيماء الصباغ في ميدان «طلعت حرب» عشية الذكرى الرابعة لـ»25 يناير»، وكذلك سجّل «هتك عرض فتاة الساحل»، في شبرا داخل سيارة شرطة، ورصد رسائل مسرّبة من أطفال معتقلين في معسكر للأمن المركزي في محلة بنها، ووفاة محتجزين في أقسام الشرطة، إضافة إلى الانتهاكات المعتادة بقتل وإصابة المتظاهرين.
ولعل أبرز الانتهاكات وأكثرها فجاجةً، سُجِّلت يوم الأحد الماضي، وهي قتل ضابط شرطة لسائق ميكروباص، حاول الهرب من أحد الكمائن المرورية لمخالفته خط السير المسموح به. وكذلك قتل أمين شرطة متهم بـ«الإرهاب»، أثناء تلقيه العلاج داخل مستشفى في منطقة العجوزة بواسطة سبع رصاصات في واقعة علّقت عليها وزارة الداخلية في بيانها الرسمي قائلةً إن «القتيل استفز أمين الشرطة». وكشفت تحقيقات النيابة، أن القاتل طلب من أحد الأطفال تصويره أثناء إطلاق النار على المجني عليه، كما أقدم رقيب شرطة على قتل عامل في وزارة الأوقاف لأنه تشاجر مع شقيقه، ليسجل شهر شباط حتى الآن، 7 حالات قتل على يد الشرطة خارج إطار القانون.
رد فعل الأهالي على هذه الحوادث، لم تتوقعه السلطة. فالأهالي حاصروا أقسام الشرطة التي تعدّى ضباطها أو أفرادها على المواطنين، ما تطلّب استدعاء قوات تأمين إضافية لحماية الأقسام. في ذلك الوقت، أعلن سائقو الميكروباص، زملاء السائق المغدور، إضرابهم عن العمل لحين معاقبة الضابط المتهم بقتل زميلهم ومعاقبته. هذه التداعيات تدلّ على شرخٍ جديد، من شأنه أن يحسم من رصيد «30 يونيو» التي هتف متظاهروها «الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة»، وهي ردّ فعل طارئ من المواطنين الذين اعتادوا قبول ممارسات سلطة ما بعد «30 يونيو».
تأتي هذه الأحداث في ظلّ أجواء عامة محتقنة، مع تنامي عمليات العنف ضد السلطة في وادي النيل، واشتعال حدة المواجهات بين الجيش ومقاتلي «أنصار بيت المقدس» في سيناء. وفي وقتٍ تحتاج فيه الدولة إلى تهدئة جبهتها الداخلية وحماية تماسك الكتلة المؤيدة لها، تأتي ممارساتها لتدق مسماراً جديدا في علاقة المواطنين بها.
من جانبٍ آخر، تبدو عودة الداخلية لممارساتها السلبية مجدداً، في لحظةٍ خرجة، تسعى فيها بجدية إلى استعادة مكانتها وإعادة الجيش لمكانه كمدافع عن الحدود وحسب، في صراع على مناطق النفوذ والسيطرة داخل النظام الجديد. كذلك، هي تظهر بوضوح رغبتها في الانتقام، والسيطرة على الوضع الداخلي من جديد، وخصوصاً بعد الهزة التي تعرّضت لها صورتها في أذهان العامة يوم 28 كانون الثاني (يناير) 2011، حين جرى حرق أقسام وسيارات الشرطة، وهروب الضباط من أماكن خدمتهم بعد سيطرة المحتجين عليها.
ويمكن تلخيص أسباب عودة الشرطة إلى انتهاكاتها بهذه الصورة، بعدم خضوع قوات الأمن للمحاسبة أو لأي جهة رقابية أو قضائية، مقابل تمتعهم بسلطات مطلقة، تصبح مفسدة، في إطار الصراع الممتد بين السلطة و"الإخوان" لأكثر من عامٍ ونصف عام، وتوريط كل الأجهزة الأمنية في هذا الصراع.
اليوم، تصدر أحكام الإعدام بالجملة ضد خصوم النظام، فيما يُقابَل المتهمون بقتل المتظاهرين في «ثورة يناير» بأحكام البراءة... قد يعود ذلك كله لكون سلطات «30 يونيو» تتعاطى باعتبارها فوق المحاسبة، وأن لا أحد يجرؤ على محاسبتها.