التقارير عن تهويد القدس المحتلة كثيرة وخطيرة، لكن الواقع على الأرض أخطر بكثير. مأساة عائلة الكرد في حي الشيخ جرّاح هي جزء من سلسلة مآسٍ قد تحملها الأيام، ولا سيما أن بيت العائلة هو واحد من عشرات غيره تنتظر الإخلاء، في ظل وجود مستوطنين محميين
فراس خطيب
البرد يتسلّل إلى هدوء ما بعد التشييع؛ خيمة الاعتصام، المنصوبة على مدخل حيّ الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة، تتحول تلقائياً إلى بيت عزاء عائلة الكرد. كانت أم كامل الكرد تمشي على مقربة منها، متعبة، تحاول قدر المستطاع أنْ تخبّئ ملامحها الصعبة بعد أيام من البكاء. فقد مرَّ أسبوعان على اقتلاعها وعائلتها من بيتها، لتجد نفسها رهينة اللجوء على مقربة من ساحة البيت الموصد بابه. واتخذت المأساة شكلاً أشدَّ قسوة، حين فارق أبو كامل الحياة ليلة الأحد الماضي متأثراً بالنوبة القلبية التي أصابته حسرة على البيت.
حين تنظر إليها، تدرك أن الإيمان بالأقدار وحده يمنحها القدرة على التحدي. امرأة في وجه مؤسسة، لكنَّها تؤمن بأنَّ «الله كريم ولن يتركنا، وسنعود بعونه»، وتستسلم بعد الإيمان للدمعة.
لم يحتمل أبو كامل مصاب الإخلاء الأول قبل أسبوعين، وأصيب ليلتها بنوبة قلبية «وظلَّ يكابر على الألم»، تقول أم كامل، قبل أن تضيف «لقد قال لي أريد الموت هنا، أريد أن أدفن هنا، على مقربة من بيتي». لكنه نقل بعد أسبوع إلى المستشفى. وصار يعاني الكلى والرئتين، بعد تعب القلب المعهود.
وتوضح أم كامل بحسرة «كنت عنده بالأمس (السبت)، طلب مني أن أحضّر له ساندويشاً من جبن القشقوان، فذهب ابني مسرعاً إلى السوق، وفتشّ في كل دكان ولم يجد. فاشترى جبنة صفراء. وأحضرناها له. تناول الطعام وحلق ذقنه وسألني: عندما سأخرج من المستشفى أين سأعود يا فوزية؟ لقد أخذه الله، ما لم يجده على الأرض سيجده عند الله».
هذه مأساة عائلة الكرد. مأساة قد لا تقتصر على العائلة، ومع الوقت ستتحوّل إلى عامة في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية المحتلة. للحي حصّة كبرى من الصراع على البقاء في القدس المحتلة. عند مدخله تقع خيمة اعتصام آل الكرد للدفاع عن المسكن والمكان من وطأة التهويد. وعند المدخل نفسه يتوافد عشرات اليهود الحريديين نحو مقام يسميه اليهود «الصديق شمعون». لكن مسنّاً مقدسياً يقول «هذا مقام الصديق حجازي، هم يصلون على عربي».
على الخط الفاصل بين البقاء والاحتلال، يقف شاب فلسطيني يوزّع سترات رمادية كتب عليها «لا للتطهير العرقي»، وإلى جانبه ثلاثة شبّان حريديين ينظرون إليه مستغربين، يطلبون منه واحدة لكنه يرفض ضاحكاً «هذه معدّة للعرب فقط». لكنّهم لا يتنازلون. حين تسألهم عما إذا كانوا يعرفون شيئاً عن عائلة الكرد، يقولون إنهم لم يسمعوا أي شيء عن القضية. يسكنون في منطقة راموت الاستيطانية، ويأتون إلى الشيخ جراح لزيارة مقام «الصديق شمعون».
مدخل الحي يؤدّي إلى بيت عائلة الكرد، وبيوت أخرى مهدّدة بالمصير نفسه؛ درج ضيق يقود إلى مجمع سكاني لمنازل «كلها مهددّة بالإغلاق»، يقول مسنَّ من سكان الحي. إلى يسار الدرج الضيق يوجد برج مراقبة متوسط الارتفاع، على ظهره كاميرا تطل على بيوت الحي وحارس يرتدي نظارة شمسية. الحي عربي، وبطبيعة الحال الفلسطينية، تبدو البيوت متراصة على بعضها بعضاً. تسكنها بعض العائلات من المستوطنين اليهود. حتى الآن هم أقلية.
في آخر الزقاق، يقع بيت عائلة الكرد. لا أحد في المكان. ممنوع الدخول إلى المنزل، لا يمكن مشاهدة ما يجري في الداخل إلا من خلال الصعود إلى السور. ساحة البيت فارغة وصامتة. النافذة مغلقة ومحكمة. لا شيء في الساحة سوى منشر الغسيل، وملابس تمطر عليها الدنيا تارة، وتجففها الشمس تارة أخرى.
إلى يسار بيت الكرد توجد خمس درجات تؤدي إلى بيت علقت عليه سلسلة من الأعلام الإسرائيلية. إنه بيت للمستوطنين. كان لا بدَّ من طرق الباب، فتح المستوطن الباب بتردد، وتحدث بتردد أكبر. قال إنه لا يعرف شيئاً عن الإخلاء، ولا يعرف عن الأوامر ولا عن القضية شيئاً ويفضّل «عدم التحدث». عندما عرف أن جاره أبو كامل «توفي حسرة على البيت»، قال «فعلاً؟ هذا مؤسف للغاية».
وحين تستمر الأسئلة، يبدي المستوطن نوعاً من الليونة، حتى يتبين أنه يتظاهر بعدم المعرفة، كان ضليعاً بكل ما يجري: «لقد تلقت عائلة الكرد أمر إخلاء قبل أربعة أشهر وهم لم يخرجوا من البيت».
كلما زاد الحديث ازداد حدّة. حين تسأله كيف يرى تصرف الاحتلال بمداهمة بيت يسكنه مسنون في ساعات الليل المتأخرة، والإخلاء بهذه الطريقة الوحشية، يأتي الجواب «أنا لا أقول إنهم مخالفون للقانون أو مجرمون. ولكن في كل العالم تأتي الشرطة للإخلاء في ساعات الليل».


«هذا سطو مسلح»أقامت العائلة بمعونة الأهالي خيمة اعتصام تقع على مدخل الحي، لتكون تلك الخيمة علامة على ممارسة الاحتلال، الذي سرعان ما أقدم على هدمها مرتين بحجة أنها بنيت من دون ترخيص، علماً بأنَّ الساحة المذكورة هي ملك لرجل فلسطيني. ويقول أحد المعتصمين: «السياسة الإسرائيلية لم تتغير منذ عام 1948. ليس فقط هجّروا الناس من بيوتهم، بل يهدمون المأوى البسيط والخيام»، مضيفاً «لقد منعنا المستوطنين من المرور من هذه الساحة لأنها ملك الفلسطينيين لا السلطات».
أهالي الكرد يعيشون حالة من اللجوء في الخيمة التي استقطبت الكثير من المتضامنين الأجانب وقلة من اليساريين الإسرائيليين، وشغلت الكثير من الإعلام الأجنبي، وخصوصاً أن أهالي الشيخ جرّاح يدركون أنَّهم موجودون في قلب معركة، ويفضحون الممارسات الإسرائيلية في المكان. وتقول ناشطة في إحدى الجمعيات التي تعني بالحفاظ على المعالم العربية في القدس المحتلة إن «ما يجري هنا ليس تطهيراً عرقياً فحسب، إنه سطو مسلح بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لو كانوا أصحاب حق، هل كانوا سيأتون في الليل؟ بهذه القوة؟ وهل هذه قوة أصلاً أن يسطوا على امرأة مسنة وزوجها المقعد؟ إنه الضعف بعينه».