المهرّبون يستغلّون الأزمة الإنسانيّة لرفع الأسعار... ولا رقابةغزة ــ قيس صفدي
غزّة ليست كالسجن، بل قد تكون أسوأ من ذلك، فأوضاع السكان أكثر مأساوية. لا دواء ولا غذاء، ولا وقود، وما ينفد من الأسواق لا بديل له. باستثناء بدائل محدودة من البضائع والسلع المصرية بأسعار «فلكية»، حيث بات أصحاب أنفاق التهريب الممتدة أسفل الحدود مع مصر «أغنياء الحصار». مصلحتهم تسير في الاتجاه المعاكس، لكون أرباحهم تتضاعف كلما اشتدت الأزمات وأحكم الاحتلال حصاره المطبق.
كان حديث أبو رامي لصديقه الشيخ معين مسموعاً للمحيطين في بيت عزاء، وهو يخبره بحرقة، أنه لم يتناول وأسرته المكونة من ستة أفراد طعاماً مطبوخاً منذ نحو أسبوع بعدما فرغت أنبوبة الغاز الوحيدة في منزله. وبعدما أيقن أن الأوضاع تزداد تدهوراً قرر «شراء أنبوبة غاز مصرية».
فوجئ أبو رامي، الذي يقطن في مدينة رفح الحدودية، بأن سعر أنبوبة الغاز المصرية سعة 14 كيلو ارتفع من 370 شيكلاً (الدولار يعادل 3.9 شيكل) إلى 500 شيكل. وكانت أنبوبة الغاز التركية أو الإسرائيلية الصنع تساوي 160 شيكلاً فقط، قبل تشديد الحصار المضروب على قطاع غزة منذ سيطرة «حماس» في منتصف حزيران 2007. وكانت مفاجأة أبو رامي أشد، عندما ذهب إلى عمله في مدينة غزة، مقرراً شراء أنبوبة الغاز لدى عودته، فوجد أن سعرها وصل إلى 600 شيكل في أقل من ست ساعات.
ما حدث لأبو رامي تكرر مع حازم، الذي ابتاع صديقه أمجد مولداً صغيراً للكهرباء بـ 650 شيكلاً، قبل أقل من ساعة واحدة لذهابه من أجل شراء مولد مماثل فوجد أن سعره ارتفع إلى 900 شيكل. وقال حازم إن حكومة «حماس» تتحمل مسؤولية الارتفاع الفاحش في الأسعار، في ظل غياب الرقابة، وترك السوق لتجار الأنفاق ليتحكموا في الأسعار مستغلين حاجة الناس في ظل الحصار وإغلاق المعابر.
ودافع أبو منصور، الذي يملك نفقاً للتهريب في مدينة رفح، عن نفسه وأقرانه من أصحاب الأنفاق. وقال إن «الناس هنا لا يعرفون ما نكابده من أجل توفير البضائع والمواد والمخاطر التي نواجهها». وأضاف: «لولا هذه الأنفاق لمات الناس جوعاً في غزة»، مستدركاً: «إن الأنفاق لا توفر إلا كميات وأصنافاً محدودة من البضائع والوقود بما لا يفي بحاجة السكان في غزة».
وبرر أبو منصور ارتفاع الأسعار بزيادة الطلب على البضائع بأنواعها، في وقت زادت فيه «السلطات المصرية من عمليات الدهم للأنفاق، والمبالغ الكبيرة التي يدفعها أصحاب الأنفاق للمهرب المصري من أجل جلب البضائع».
ووصلت أزمة الغزيين إلى رغيف الخبز، فاستحضروا وسائل قديمة لتوفيره، بعدما نفد من المخابز، التي أغلقت أبوابها لنفاد الدقيق وانقطاع التيار الكهربائي والوقود، بينما لجأت بعض المخابز إلى تحويل أعلاف الطيور والحيوانات إلى خبز.
وعادت الحركة لتدب في أركان فرن الحاج أبو ياسين في مخيم الشاطئ، الذي كان بالنسبة إلى الغزيين بديلاً من المخابز الحديثة. وقال أبو ياسين، الذي يستخدم أكواماً من الأوراق والمخلفات البالية كي يوقد فرنه المهترئ، إنه سيستمر في العمل إلى أن تنتهي هذه الأكوام، لافتاً إلى قلة الأخشاب والحطب وارتفاع أسعارها، نظراً للإقبال عليها في الآونة الأخيرة بعد نفاد الوقود وغاز الطهو.
غزة تعج بتلك المشاهد التي تخالها لقطات من فيلم يروي قصص العصور الوسطى، من بلد بلا كهرباء منذ أكثر من أسبوعين، وبلا سيارات تقريباً بعد توقف أغلبها بسبب نفاد الوقود وشح البديل المصري. ومواطنون بات همهم اليومي الحصول على لقمة عيشهم في سباق مع الزمن.
ولا يفصل الغزيون عن زمن النكبة سوى خيمة لجوء ليشعروا بما شعر به أباؤهم وأجدادهم بعد مرور 60 عاماً على التشريد واللجوء.
وكان القطاع الصحي الأشد تأثراً بالأزمة، مع تصاعد التحذيرات اليومية من وقوع الكارثة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي ومنع الاحتلال لقطع الغيار اللازمة للأجهزة الطبية. وقالت وزارة الصحة في حكومة «حماس» إن نحو 20 مريضاً معرضون للموت في أي لحظة، إذا لم يخضعوا سريعاً لعمليات زراعة كلى، بعدما تعطلت أجهزة غسل الكلى بفعل عدم وجود قطع غيار.
وأضافت الوزارة في بيان صحافي، أن عدد مرضى غسل الكلى في غزة المحاصر تجاوز 400 مريض، هم في حاجة ماسة لثلاث جلسات أسبوعياً، ونظراً لتعطل الكثير من أجهزة غسل الكلى جراء منع قوات الاحتلال إدخال قطع الغيار اللازمة لصيانة هذه الأجهزة، تدهور الوضع الصحي للكثير من مرضى الفشل الكلوي.
وأكدت الوزارة أن «محطات الأوكسجين المركزية في وزارة الصحة أصبحت غير قادرة على توفير الأوكسجين لزهاء 500 مريض يحتاجون إلى الأوكسجين باستمرار ويرقدون على أسرة المرض داخل بيوتهم، وذلك نتيجة توقف 50 في المئة على الأقل من الأجهزة الطبية عن العمل بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي الذي يكاد يفتك بهذه الأجهزة الفاقدة أصلاً لأي قطع غيار لصيانتها إذا أتلفت».
وحذرت وزارة الصحة «من تلف آلاف الوحدات من الدم والبلازما والصفائح الدموية، وعشرات الآلاف من جرعات تطعيم الأطفال نتيجة الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي عن الثلاجات المخصصة لحفظها».


وصف المنسق الإنساني في الأراضي الفلسطينية، ماكسويل غايلارد، الحصار الإسرائيلي بأنه «اعتداء على كرامة الإنسان ويخلف أبعاداً إنسانية قاسية». وأضاف أن «كثيراً من الناس يدفعون ثمناً باهظاً تحديداً في قطاع غزة، إذ يناضلون يومياً من أجل الحصول على ما يكفي من الغذاء والماء لإطعام أطفالهم».
وأوضح مساعد المفوّض العام لوكالة «الأونروا»، فيليبو غراندي، أن مؤشرات الفقر والبطالة بلغت مستويات قياسية. وأضاف: «للمرة الأولى تعيش أكثر من خمسين بالمئة من الأسر تحت عتبة الفقر».