عبد الحليم فضل الله الأزمة الراهنة ليست فريدة من نوعها، ففي العقدين الأخيرين عرفت اقتصادات ناشئة ومتقدمة أزمات أقلّ حجماً وأضيق انتشاراً، لكنها تحمل الموروثات نفسها التي تفسر سلوك الأسواق الرأسمالية، وتبيّن أسباب تعرضها الدائم للتقلبات الدورية والانهيارات المفاجئة. ومع ذلك لا يزال التردد بين الخيارات المتاحة يحكم أداء صانعي القرار، تبعاً لبقايا التصلب الإيديولوجي في أروقة البيت الأبيض، ولعدم تقديم الرئيس المنتخب حتى الآن أفكاراً واضحة بشأن تسوية التضارب بين هدفين وردا في برنامجه الأولي، وهما تحفيز النشاط الاقتصادي من طريق الإنفاق العام، وتقليص عجز الموازنة الفدرالية.
ومهما تعددت وجهات النظر، فإن من المفيد العودة قليلاً إلى الوراء للتعلم من التجارب، وللعثور على مثال مرجعي يمكن النسج على منواله. التفاتة كهذه تمنحنا فرصة التعامل بجدية مع وقائع حرجة جرى التقليل من أهميتها، على خلفية انتفاخ الأسواق المالية طوال سبع سنوات، ما ترك انطباعاً بأن الأزمات المتكررة ما هي إلا استثناءات عابرة لا تستلزم إصلاحات هيكلية. ولهذا التحفظ صلة بإنكار الرأسمالية الكلاسيكية في الأساس وجود تفسير نظري موحد للكساد والدورات الاقتصادية، فكل أزمة هي عبارة عن سلسلة فريدة من الأحداث تسبقها سلسلة فريدة من الأسباب، كما رأى «ويسلي ميتشل» (1874-1948) في أعقاب الكساد الكبير.
على أن أزمة الاقتصاد الياباني تتضمن أكثر من غيرها عبراً تخص الوضع الراهن. وفيما الاضطرابات التي مرّت بها الأسواق الآسيوية، والإعسار المالي والتضخم المرتفع والمديونية العالية لبعض دول أميركا اللاتينية، حصلت في أسواق ناشئة لم تكن قد تخلّصت تماماً من قصورها البنيوي، فإنّ أزمة اليابان أحبطت آمال دولة صناعية متقدمة في أن تحتل المرتبة الأولى في القرن الواحد والعشرين.
فخلال العقود الأربعة التي تلت الحرب العالمية الثانية، عرفت هذه الدولة نموّاً منقطع النظير، بلغ 10% تقريباً في الخمسينيات والستينيات، ومع أنه تراجع في العقدين التاليين فقد بقي المعدل عند مستوى يساوي ضعف مثيله في الدول الصناعية السبع G7. لكن اليابان عانت في الأعوام التالية من مشكلة حادة هي مزيج من تباطؤ ناجم عن تقلبات دورية عادية، ومشاكل حادة في النظام المالي والمصرفي، لم تقابلها سياسات ملائمة، ليقع اقتصادها الطامح إلى تخطّي الاقتصاد الأميركي ضحية ركود طويل وضعها في أسفل سلّم الدول الصناعية الكبرى، لناحية النموّ في الفترة 1998-2002.
يظهر تحليل الأزمة اليابانية أنها اشتملت على عنصرين مشتركين مع الأزمة الحالية: هبوط حادّ في أسواق المال وتقلبات واسعة في أسعار الصرف. فبعد فترة طويلة من الرواج انهار هذا المؤشر باطّراد، محققاً 8500 نقطة فقط في أكتوبر من عام 2002، مقارنة بـ 38000 نقطة قبل ذلك بعشر سنوات. وقد انعكس هذا التراجع على أسعار الأصول والملكيات العقارية وغير العقارية، وأفضى تقلّص حجم الثروة، إلى خفض إنفاق الأسر والحدّ من عمليات الاستثمار ونشوء ما يعرف بانكماش الائتمان الذي سبّب تدهوراً جديداً في أسعار الأصول والإنفاق الكلي، ممهداً الطريق أمام تباطؤ لولبي متصاعد. وقد ترافق ذلك مع ارتفاع متواصل في سعر الصرف الحقيقي استمر حتى عام 1995 أعقبه تراجع مطّرد أفقد العملة اليابانية 35% من قيمتها في خمسة أعوام.
اعتمدت اليابان على الطرق التقليدية في مواجهة الأزمة، فلجأت إلى سلاح سهل هو خفض معدلات الفائدة، لتأمين سيولة كافية ورخيصة، وخفض سعر الصرف الحقيقي. لكن المشكلة هي أنّ السلطات استنفدت كل إمكانات خفض الفوائد أثناء تعاملها مع الجوانب المالية والنقدية للأزمة، إذ انخفضت معدلات الخصم على مراحل من 6.5% تقريباً عام 1990 إلى حوالى الصفر مطلع الألفية الثالثة. وهذا سلوك مألوف في مقاربة الأزمات، إذ تعمد السلطات النقدية ـــ كما يحصل اليوم ـــ إلى خفض الفوائد إلى أدنى حدّ ممكن قبل وصول الموجة إلى الاقتصاد المادي، وحين تصل، لا تجد السلطة النقدية في جعبتها غير طلقات فارغة، فضلاً عن أن الخفض المتمادي للفوائد يغرق الأسواق في مصيدة السيولة، حيث يؤدي ضخ مقادير إضافية من السيولة إلى تضخيم الأرصدة النقدية التي بحوزة الأفراد بدلاً من تعزيز الطلب الإجمالي.
وإلى جانب الإجراءات النقدية، تبنّت اليابان بعد فترة من الأزمة سياسة مالية توسعية، تضمّنت حزمة من الإعفاءات والحوافز والنفقات التي أفلحت في رفع مستوى الطلب وتحقيق تحسن ملموس في نسب النمو، غير أنها لم تعوّض عن خسائر النمو المتراكمة، كما انتهت إلى رفع نسب العجز المالي إلى 8% من الناتج الوطني والدين العام إلى أكثر من 140% منه.
لعل الفارق الرئيسي والوحيد بين برنامجي جورج بوش وباراك أوباما، يتمثل في اعتماد الأول على الأدوات النقدية واستعداد الثاني للتوسع في الإنفاق العام ومنح الحوافز الضريبية، لكن تجربة اليابان في التعامل مع أزمتها التي لم تكن قد خرجت منها بعد، تفيد بأنّ السياسة المالية تحظى بأفضليّة على السياسة النقدية في مواجهة أزمات حادة، لكونها أكثر دقة وأدنى كلفة، إلا أنها عاجزة عن تحقيق ما هو مطلوب منها ما لم تأت في سياق إصلاحات هيكلية، تبدأ بإصلاح الأنظمة المالية والنقدية، وتنتهي بالحد من التمركز الهائل للقوة المالية العالمية لدى عدد قليل من المؤسسات المالية والإنتاجية، تلك التي وجدت نفسها قادرة على الاستفادة من الضمانات التي توفرها الدول، من دون أن تضطر إلى رعاية مصالحها الاقتصادية والاجتماعية.