د. سهيل قعوار تمثل الأحداث المتسارعة في الأسواق المالية العالمية ارتدادات عنيفة وغير متوقعة لتعثر المقترضين في قطاع العقارات الأميركي، وهي تنعكس على عدد من الأوراق المالية المعقّدة وعامل الثقة بين المؤسسات المالية. إن التراجع في سوق العقارات وأسعارها كان متوقعاً حالما عاودت معدلات الفائدة الصعود من المستويات المتدنية التي فرضها المصرف المركزي الأميركي لمعالجة نهاية فقاعة أسهم شركات الإنترنت في عام 2000 وأحداث 11 أيلول 2001، لكن المفاجأة كانت من خلال الأثر على الابتكارات المالية التي تزامنت مع طفرة قطاع العقارات، وتحديداً التطور الكبير في استخدام أدوات مالية جديدة تثير الجدل الآن بسبب قلة الخبرة بعملها، وضعف الرقابة على تداولها، ولا سيما سندات الدين المضمونة بالرهونات العقارية (Collateralized Debt Obligations - CDO) ومبادلات عدم الوفاء بالالتزامات (Credit Default Swaps - CDS).
تمثّل الابتكار المالي الأساسي في جمع قروض عقارية وتجزئتها إلى شرائح (تبعاً للتقييم المعطى للمدين)، ومن ثم إصدار سندات بضمانة هذه المجموعات من القروض وتسويقها. وصنّفت مؤسسات التقييم السندات بالطريقة المعهودة، ما سهّل تسويقها للمؤسسات المالية والمستثمرين الباحثين عن عائد أعلى من العوائد على الاستثمارات المتاحة في ظل انخفاض معدلات الفوائد، وسمح تسنيد هذه القروض ثم بيعها إلى مستثمرين في مراكز مالية حول العالم بضخّ موارد جديدة بطريقة إعادة التدوير والرفع المالي إلى المؤسسات المالية من بنوك تجارية وبنوك استثمار، بالإضافة إلى صناديق التحوّط التي أصبحت لاعباً كبيراً في الأسواق المالية. وأتاح هذا التوسع زيادة التمويل الممنوح لقطاع العقارات الذي شهد طفرة كبيرة بين سنوات 2002 و2007، تمثلت بخفض نوعية المقترضين وجدارتهم. وساهم في توسع هذه الدورة لجوء العديد من حملة هذه السندات (في الأسواق الأوروبية) غير المتأكدين من ملاءة المقترضين إلى نقل مخاطر عدم الوفاء بتسديد السند المصدر بإجراء مبادلات CDS المذكورة آنفاً. وكان لمؤسسة التأمين الأميركية الكبيرة (AIG) دور أساسيّ في توسيع نطاق عمل هذه المبادلات، التي لم تتعامل معها الأجهزة الرقابية على أنها عمليات تأمين، وهو ما أدى إلى تعثر هذه المؤسسة قبل إنقاذها عن طريق قرض عملاق بقيمة 85 مليار دولار. ومع معاودة معدلات الفائدة ارتفاعها في 2005 و2006، ظهر تعثّر المقترضين العقاريين في تسديد التزاماتهم، وانتقلت المشاكل إلى السندات المصدرة بكفالة القروض المتعثرة من خلال خفض قيمها المسجلة في الميزانيات العمومية للمؤسسات المصدرة للسندات.
اتضح للمصرف المركزي الأميركي وجود متاعب في تسديد القروض في آب 2007، ولكن بدون تقدير جيد لانعكاسات الأمر على السندات المصدرة بضمانة القروض العقارية. فلجأ في البداية إلى المعالجة التقليدية بخفض معدلات الفائدة تدريجياً من 5% في منتصف 2007 إلى 2% في بداية 2008، إلا أن ذلك لم يمنع حدوث خسائر كبيرة في قيم أصول المؤسسات التي تحوز كميات كبيرة من السندات المضمونة بالقروض العقارية ضمن أصولها. وحاولت السلطات الأميركية إجراء معالجة منفصلة لوضع كل مؤسسة تعاني المصاعب انطلاقاً من بيع Bear Stearns إلى وضع اليد على Fannie Mae و Freddie Mac ثم الموافقة على إفلاس ليمان براذرز واستحواذ بنك أوف أميركا على ميريل لينش وأخيراً نجدة AIG... إلى أن توصلت السلطات إلى قناعة بأن المعالجات الجزئية لن تؤدي إلى الحل المطلوب، وأن المشكلة تحوّلت من قضية توفير سيولة مرحلية إلى قضية تجمّد في الإقراض المصرفي وعدم توافر الأموال المتاحة للإقراض القصير الأجل، وهو الاقتراض الذي يمثّل عصب التمويل التشغيلي للمؤسسات غير المالية، وذلك نتيجة تخوّف المؤسسات المتمتعة بالملاءة من استنزاف أموالها وانخفاض قدراتها على استقطاب أموال جديدة لدعم تدني قيم الأصول العقارية. وعلى هذا الأساس أعد برنامج معالجة الأصول المتعثرة (TARP)، الذي يهدف إلى رفع أسعار السندات العقارية عن طريق شرائها من الحكومة، ويضع البرنامج مبالغ كبيرة بتصرف وزير الخزانة لهذا الغرض.
ورغم معارضة سياسيين واقتصاديين محافظين لمثل هذا التدخل في عمل الاقتصاد، لا يمثل البرنامج تطوراً جديداً في معالجة مشكلة تهدد بركود الاقتصاد الأميركي (والاقتصادات الأخرى المرتبطة به) عن طريق الإحجام عن الإقراض، إذ إن الحكومة الأميركية لجأت في فترة الكساد الكبير بين عامي 1929 و1937 إلى تمويل مشاريع إعمار منازل وبنائها لإعادة النشاط إلى الاقتصاد. الفارق في البرنامج الحالي هو الحجم الكبير للمبلغ الذي طلبته الخزانة والسرعة النسبية في الوصول إلى القناعة بضرورة التدخل في السوق.
يرى المحللون الاقتصاديون أن فكرة برنامج دعم أسعار السندات والمشتقات المالية سليمة من حيث المبدأ، ولكنها قد تعاني من الاستنسابية عند تحديد مستويات الأسعار في أسواق مرتبكة، ما قد يؤدي إلى تمييز في استفادة المؤسسات. علماً بأن أقلية من المحللين ترى أن مشكلة ارتباك الأسواق المالية، كما يتضح من التقلبات الكبيرة اليومية في مستويات الأسعار، وخطر انتقال عدوى انخفاض الثقة بين المتعاملين، سيوسّعان نطاق الأزمة لتشمل قروض شراء السيارات وقروض البطاقات، وهناك خطر كبير من زيادة حذر المقرضين، وهو غير محصور في سوق الولايات المتحدة بل يشمل كل الأسواق المالية العالمية.
يتوقع أن تؤدي الأزمة الحالية إلى المطالبة بزيادة الرقابة وتفعيلها على تداول الأدوات المالية المعقدة وتقييمها. ولكن تطورات العولمة ومسار الابتكارات المالية ستتكيّف لتسبق المتطلبات الرقابية. وتشير الخبرة في مسار التعاملات المالية إلى أنه يتحتم على السلطات النقدية والرقابية الاستعداد لمعالجة النتائج السلبية للمخاطر التي ستقوم بها العناصر المبتكرة في القطاع الخاص (وهذا كان رأي آلن غرينسبان عندما حثه بعض الاقتصاديين على تنفيس الفقاعة العقارية)، وأن هذا أحد الأثمان المتوجب تسديدها لنمو الاقتصادات. المفاضلة الواجبة هي تقبّل إمكان حصول خسارة كبيرة كل عقدين أو ثلاثة عقود، ولكن مع إحراز تقدم في كفاءة عمل الاقتصاد، أو اتخاذ إجراءات الحيطة والحذر بصورة مستمرة، وتحجيم نمو الاقتصاد بصورة مستمرة.