Strong>وائل عبد الفتاحظاهرة المعارض الفرد جديدة على مصر. سببها حرب الأجهزة الأمنية على التنظيمات السرية والعلنية، لكن الأجهزة بدأت في استيعاب الظهور الفردي المعارض. وبعد سعد الدين إبراهيم وأيمن نور، ها هي شخصيات جديدة في مسار قذائف النظام

القفز عن السور


ابتسم المستشار هشام بسطاويسي وهو يقول: «أريد أن أقفز عن السور». كان يرد على الدهشة من خبر موافقته على الإعارة إلى الكويت. الكلام كان خلال سهرة سحور لوداع المستشار الذي كان رمز معركة النظام والقضاة. والحاضرون، كما وصفهم رئيس حزب «الجبهة الديموقراطية»، الدكتور أسامة الغزالي حرب، أركان «مدرسة مشاغبين».
ورغم الابتسامات والسخرية العالية من كل شيء، إلا أن الحزن كان حاضراً. سفر هشام بسطاويسي مربك. نائب رئيس محكمة النقض يضطر للسفر بحثاً عن أمان مالي بعد سنوات من العمل المميز في القضاء؟ قبل عشر سنوات تقريباًَ كان هشام بسطاويسي يحمل أوراق قصته المشهورة في إحدى دول الخليج عندما كان معاراً، واتصل به حاكم الدولة يأمره بأن يصدر حكماً معيناً في قضية ينظر بها. ساعتها جمع ملابسه وغادر البلد فوراً.
وبين الإعارة الأولى والثانية سنوات، تغيرت فيها أشياء كثيرة، إلا الوضع المالي لمستشار وصل إلى منصب رفيع المستوى في سلك القضاء، لكنه يرفض رشى النظام المغلفة أو التي تساهم في إفساد القضاة مباشرةً وتجعلهم يحطمون السور، لا أن يرغبوا فقط في القفز عنه. الرشى تأتي في صورة انتداب، وهي فرص ينالها المحظوظون والمرضيّ عنهم وبمكافآت تتفاوت من مستشار إلى آخر حسب قربه وأهميته والمطلوب منه. هذه أشهر طرق إفساد القضاة المستخدمة من أيام أنور السادات، كما حكى بسطاويسي، في إشارة إلى أن عبد الناصر أراد السيطرة على القضاة، لكن مع السادات بدأت عملية إفساد حقيقية.
العملية مستمرة، وتحوّلت إلى خطة شرسة من أجل السيطرة على القضاء بامتصاص القدرة على الاستقلال من خلال وضع القضاة في مستوى مالي قلق. الرواتب تستمر كما هي، والزيادة لا تدخل ضمنها، تبقى حوافز، أي بيد السلطة التنفيذية. وإذا كان نظام الحوافز يمكن قياسه في قطاعات أخرى، فكيف يمكن قياسه مع القضاة؟ إنها طريقة للتحكم غير المباشر والسيطرة الخفية التي تشعر القضاة بأنهم أقرب إلى موظفين عند السلطة التنفيذية.
هذه الخطة تضع الشرفاء دائماً تحت الاختبار والضغط، وهذا هو المربك. هل سفر هشام بسطاويسي هو إعلان يأس؟ أو نهاية لحركة القضاة؟ أسئلة متشائمة، لكن هدوء هشام بسطاويسي وثقته ولغته الراقية في الحديث عن رحلة القضاة في البحث عن استقلالهم سرّب بعض الأمل.
ظهر القضاة في ظل غياب رموز كبيرة للإصلاح السياسي. الاعتقاد السائد هو أن المجتمع عقيم. وسنوات الصمت الطويلة أسفرت عن فراغ كبير تعيشه مصر بلا شخصيات تمثل علامات إرشادية للخروج من نفق الأنظمة المستبدة.
هذه حقيقة عاشتها مصر على المستوى السياسي طوال السنوات التالية لصعود متعهدي الصفقات السرية مع أجهزة أمن الدولة إلى قمة الأحزاب التي ماتت سريريّاً بعد 25 سنة من عمليات الخنق البطيء.
الحركة السياسية ظلت تحت السيطرة. ومع غياب شيوخ العمل الوطني واعتزالهم، لم تظهر رموز جديدة تلتف حولها شرائح المجتمع وطوائفه. وتحولت السياسة في مصر إلى صحراء يملكها الحزب الحاكم بوضع اليد. وكان السؤال المؤلم: «من الذي يمكنه أن يكون البديل أو يجسد أحلاماً كبيرة في مواجهة احتكار النظام الحاكم؟».
لم يتوقع أكثر المتفائلين أن تعود الحياة إلى الصحراء. لكن المفاجأة وقعت وكانت أكبر تاثيراً، لأنها أتت من القضاة. الشريحة المحافظة المستقرة التي لا بوادر عداء بينها وبين النظام.
لكن الصدام بدأ في أيار 2006 بسبب محاكمة هشام بسطاويسي ومحمود مكي بتهمة الإساءة للقضاء، بعدما فضحا مشاركة بعض القضاء في تزوير الانتخابات النيابية والرئاسية. كانت هذه شرارة جولة جديدة من معركة استقلال القضاء. معركة طويلة بدأت من مؤتمر العدالة الأول سنة ١٩٨٦. خروج القضاة إلى الشارع مثّل مفاجأة من النوع المثير للتأمل في تاريخ مصر السياسي. كيف يتحوّل القضاة بهيبتهم وصورتهم من سلطة لها تأثيرها المباشر في منصات المحاكم إلى شخصيات كبيرة يتجاوز حضورها نخبة السياسة إلى شرائح شعبية تتفرج على الصراع مع النظام وتتورط بالتدريج في حرب النهايات المشتعلة الآن.
اسم المستشار هشام بسطاويسي لمع في أسابيع، ليصبح رمزاً للاستقلال عن النظام، والسير نحو بناء دولة حديثة. ومحاكمته مع المستشار محمود مكي تلخص صراع الأجهزة القديمة للنظام مع المتمردين الحالمين بالعدل الغائب. هما رمز معركة تحديث مصر وانتقالها الحقيقي إلى دولة مؤسسات فيها قضاء مستقل عن سطوة السلطة التنفيذية ومتحرر من تأثير قدسية الحاكم وسلطانه اللانهائي.
خرجت محاكمة بسطاويسي ومكي من فكرة «حرب أهلية بين القضاة» إلى شارع مشتاق إلى التغيير، ورفعت صور القضاة للمرة الأولى مرة في التظاهرات، وأصبح الرجل العادي البعيد عن السياسة يعرف أسماء المستشارين زكريا عبد العزيز ومحمود الخضيري وأحمد مكي وناجي درباله وعاصم عبد الجبار وغيرهم. وكان هتاف المتضامنين مع اعتصام القضاة: «سير سير يا هشام احنا وراك للأمام».
هشام بسطاويسي وجه هادئ. تربية مختلفة، تربية ليبرالية لا تضع الرئيس فوق النقد، وتسعى إلى حق الشخص العادي أولاً في اختيار الرئيس ودائماً في محاكمة عادلة. لا يخلط بين تديّن الناس ودستور الدولة. يحلم مثل جيله باحترام حريات التفكير والاعتقاد، وبمصر جديدة آمنة عليه وعلى أولاده.
هل سفر المستشار نوع من أنواع الهروب؟ إعلان نهاية؟ ابتسم بسطاويسي ابتسامة خجولة وهو يشير إلى سبب السفر «مضطر. وأتمنى أن تقصر المدة»، سبب موجع ربما ينهي التكهنات بشأن نهاية حركة القضاة، وخصوصاً عندما يعلن بسطاويسي: «هناك جولة جديدة في تشرين الثاني. جمعية عمومية لنادي القضاة. سنطالب فيها الحكومة بقانون جديد للسلطة القضائية. يضمن استقلالها أكثر».
هل ستكون معركة النهاية؟ أم بداية جديدة لرحلة استقلال القضاء في مصر؟ وكيف سيعود بسطاويسي بعد القفز عن السور؟

الإفلات من مصائد الأمن



«علشان متنضربش على قفاك»، عنوان الكتاب لم يكن فقط لافتاً بل مثيراً. الإثارة من نصيب قراء صدمهم موضوع الكتاب وصدمهم أكثر أن مؤلفه ضابط شرطة سابق برتبة عقيد
فجأة تحوّل عمر عفيفي من ضابط سابق إلى مطارد، بعدما استفز أجهزة الأمن، بكتابه «علشان متنضربش على قفاك». استفزاز حوّله إلى هدف، ودفعه إلى الهرب إلى الولايات المتحدة في نيسان الماضي.
عفيفي ترك زوجته وأولاده ولا يريد أن يراه الناس في صورة «الهارب». هو أقرب إلى لاجئ سياسي، رغم أنه لم يطلب رسمياً اللجوء السياسي. وهو أقرب إلى مطاريد النظام. تلاحقه أجهزة أمنية بعمليات، بعضها معلن مثل تفتيش بيته أو مصادرة كتابه وأحياناً بـ«عمليات قذرة». ويحكي عفيفي عن مطادة سيارتين مجهولتين له في شوارع القاهرة.
كيف تحول الضابط إلى طريد الأمن؟ إنه الكتاب الذي يتضمن دروساً عملية في حقوق المواطن داخل قسم الشرطة. و«الضرب على القفا»، هو أول استقبال لزائر القسم. يسمونها التحية. ويكسرون بها روح لزائر ليخضع تماماً ويصبح تحت السيطرة.
«الضرب على القفا» هو أعلى إهانة بالنسبة للمصري. وكتاب عفيفي هو علامات إرشادية على طريقة السؤال والجواب، يشرح فيه للمواطن البسيط حقوقه وواجباته، ويعرّفه بمصطلحات كثيرة يجهلها مثل الفرق بين التحري والكمين وإذن التفتيش، ومن يجوز له تفتيش سيارته أو زوجته تفتيشاً ذاتياً وكيف يمكن أن يشكو ضابطاً عذّبه أو لفّق له تهمة.
سطوة الأجهزة الأمنية تعتمد على جهل المواطن بحقوقه. وهو في القسم كأنه في مصيدة. يتخلّى فيها عن كل وسائل مقاومته ويستسلم أمام جبروت مثل القدر لا راد له.
مشاعر الاستسلام هي أول خطوة في السيطرة على شعب كامل يتحرك متفادياً مصائد الشرطة في نزع كرامته. وهذا يعزز الشعور بالتشابه مع أوضاع أسرى الحرب.
الكتاب هو دليل الهروب من المصيدة، لكنه أصبح علامة تحوّل في حياة العقيد المخضرم. أصبح «عدوّاً سياسياً». وبدلاً من توقعات افتراضية بأن وزير الداخلية سيوزع الكتاب مجاناً، أصبح عفيفي الصيد الذي تطارده أجهزة الرعب لتمنحه درساً بليغاً في الصمت.
هروب عمر عفيفي إلى أميركا نقله إلى مصاف «المعارضة في الخارج». وظهوره في «الفيديو كونفرنس» بجوار سعد الدين إبراهيم أعطى بعداً جديداً لكلامه. واتسعت دائرة اهتمامه ليتحدث عن «محاولات أجهزة الأمن ضرب الحركة الوطنية. والتشكيك في وطنية المعارضين عبر أجهزة الإعلام المملوكة للدولة».
تحدث عفيفي عن عمليات زرع الجواسيس في قلب الحركات السياسية: «لا تكون مهمتها فقط نقل الأخبار، بل زراعة الشك في صفوف المنتمين للحركة. ثم توجيهها عن بعد عبر تجنيد عملاء إضافيين».

في مهب الحروب القذرة الحرس القديم له في الصحافة رجال ورؤساء تحرير، ينهشون كل من يمسّ جمال مبارك من أجل تحويله إلى «شخصية مقدسة» أو «سقف» لا يصل إليه النقد.
هذا ما يحدث الآن مع نائب مجلس الشعب المستقل، جمال زهران، بعد طلب الإحاطة العاجل الذي قدمه عن جولات مبارك الابن في المحافظات، متهماً الصحف الحكومية بإهدار ٢٠ مليون جنيه من المال العام لتغطية زيارات مبارك إلى بني سويف والشرقية.
ويقول زهران، الذي رفض بقوة الانضمام إلى الحزب الوطني، في طلب الإحاطة، إن «التقاليد الصحافية المستقرة في صحف الحكومة في مصر تقضي بأن المانشيت الرئيسي للصفحة الأولى، هو من أخبار رئيس الدولة. لكننا وجدنا أنه جرى تخصيصه لأمين لجنة السياسات في تغطية زياراته، ما يمثل منتهى الفجاجة والسقوط في خطأ مهني جسيم». وأضاف أن تصريحات جمال مبارك المنشورة في تلك الصحف «لا تبدو صادرة عن قيادة حزبية سياسية. بل عن شخص يحكم الدولة بالوكالة، وهو فوق الحكومة ومؤسساتها، إذ يفتتح المشروعات اغتصاباً لسلطات الحكومة».
هذا ما قاله زهران في طلب إحاطة خطير، تعاملت معه الحكومة والنظام ببرودها العلني المعتاد. لكنها أطلقت رجالها في الصحافة الذين حاولوا نهش النائب بحملة تستهدفه شخصياً، وتستخدم أساليب الحروب القذرة، وتخطط من أجل ضرب علاقته بأهل الدائرة التي يحظى فيها بشعبية ضخمة.
الحرب مكشوفة. هدفها استهلاك النائب في الدفاع عن نفسه أو تحطيم معنوياته العالية، وتخويفه من الاقتراب مجدداً من ملف جمال مبارك. والأهم هو صناعة خطوط حمراء تجعل الاقتراب من ابن الرئيس يشبه لمس سلك كهرباء عار.
الهدف ليس جمال زهران وحده. بل كل من يحاول رفض تمرير سيناريو جمال مبارك بالخديعة. الحملة إرهابية، وأسلحتها مبتذلة. ينضم إليها خصوم جدد يتوقعون أن يلاحقهم النائب المشاكس كي لا يحوّلوا شبرا الخيمة (دائرته) إلى جزيرة نفايات شركات المازوت.
مشروع تكرير المازوت في شبرا الخيمة هو سبب إضافي للحملة على زهران. وبدلاً من مناقشته أو إقناعه، يستخدمون أسلوب المافيا في التصفية المعنوية، ويوجهون ضربة وقائية التقت مصالحها مع حملة الحزب السري لـ«إكسير حياة» عواجيز السلطة، أي جمال مبارك.