الحكم بسجن إبراهيم عيسى قد لا يكون معزولاً عن مخطّط أشمل لإعادة الصحافة إلى بيت الطاعة لأنها «كاذبة»، في وقت يحترف فيه النظام وأركانه اختلاق الروايات الساذجة
«الكذب». بهذه التهمة صدر حكم بحبس الصحافي إبراهيم عيسى لأنه نشر «شائعات عن صحة الرئيس». النظام أدار محاكمة ولم يعلن الحقيقة. الحقيقة ملك للنظام وحده يضعها في لوح محفوظ وما عداها كذب وافتراء عقوبته (إلى جانب الحبس) طرد من النعيم. نعيم الصدق الرسمي. وحده النظام صادق ورجاله كهنة لا ينطقون عن هوى أو كذب. حتى عندما يظهر جنرال كبير ويروي بطولات عن إنقاذ الرهائن بقوات خاصة وتكذبه كل وسائل الإعلام في العالم كله.
الجنرال لا يكذب. وروايته أقوى من الدفاع عن نفسها في مواجهة شهادات الرهائن انفسهم. لهذا صمت الجنرال وناشرو روايته ولم يعلقوا على التكذيب. فعلهم الوحيد كان حبس صحافي اقترب من ملفّ مقدس: صحة الرئيس.
الحكم لم يكن غريباً. النظام يريده في هذه اللحظة تحديداً، لحظة القلق من انتقال السلطة، أياماً هادئة. والحاشية تريد تخويف الصحافة، ليعلن للناس مجدّداً أن قبضته لا تزال قويّة، ويحدّد قائمة خطوط حمر: لا تقتربوا من صحة الرئيس.
هذه هي الرغبة الكبيرة من وراء الحكم على إبراهيم عيسى: أن يظل الرئيس مقدساً بعيداً في قصره، يحيط به الكهنة من حاشيته. هم فقط يعرفون كل شيء. لا حق للشعب في أن يعرف إلا ما يعلنونه وقتما يريدون. إنه احتكار حق بث خبر غياب مبارك. لا صحافة تفتش وتشاغب وتقفز الأسوار لترى الحقيقة الميتة في القصر.
الرواية حصرية من النظام. لكي يعمل رواته الرسميون وغير الرسميين على راحتهم ويبدعون الروايات الرسمية التي تتحدى المكذبين. لا تهم الفضيحة العالمية. المهم الاحتكار. سمة النظام الحديدي القادر على بث الرعب. والضربات الموجهة للصحافة هي حملة منظمة لنشر الرعب بين الصحافيين. وأول خطوة فيها هو إجبار الصحافة على الاعتذار وطلب العفو. المطلوب هو أن تنكسر الشجاعة ويقوى النظام بإثارة الرعب.
الحقيقة تطفو من جديد مثل سمكة ميتة: لا بد أن تعود الصحافة إلى الطاعة، إلى الناقلة الرسمية لروايات الجنرال عن بطولات وهمية، لا أن تترجم ما يرويه الرهائن في صحافة العالم وتنشرها في مواجهة رواية القوّة الخاصة الساذجة.
الخوف من السجن سيجعل الصحافيين ينشدون الصحافة الناجية، الصحافة البيضاء، الباردة. صحافة تصفق وتغني وتسير في موالد ديناصورات النفوذ. مهمتها التبجيل والتقديس.
«الصحافة الناجية» روت «بطولة» القوّة الخاصة بفخر غريب، ونشرت خبر سجن إبراهيم عيسي بشماتة أغرب. صحافة لاتزعج أحداً. أفضل ما فيها صفحات الوفيات وتعليمات الحكومة و«رحلات» المسؤولين من غرفة السفرة إلى المكتب في الوزارة.
جهاز شائعات النظام يسرّب شائعات مضادة عن صحافة «قليلة الأدب» تنشر الفضائح وتتلصص على أسرار الناس العاديين والبسطاء. شائعة تضمن السيطرة على العقول وتحقق غرضاً أساسياً هو التشويش على مطلب تحرير قوانين الصحافة من رعب العقوبة.
لم يعاقب الجنرال على روايته الكاذبة، فهي جزء من بناء النظام، بينما الصحافي يدفع ثمن شغبه وتفتيشه في الأسرار المقدسة ورغبته في أن يتلصص الشعب على سرير الرئيس.
الكذب هو محور الصراع الآن بين النظام والمعارضة. الصحافة عندما هربت من بيت الرعب بحثت عن روايات غير رسمية، بينما ترهلت الروايات الرسمية أمام موهبة العثور على ثغراتها الفاضحة. اشتاقت الروايات الرسمية إلى التصديق الكامل والجمهور المستسلم. والصحافة ملعونة بحريتها، إما أن تطلب العفو وتعتذر، وإما أن يدخل الصحافيون واحداً تلو الآخر إلى المصيدة.
عملية اصطياد الصحافة تتخذ بعداً شرساً على اعتاب الذكرى الـ ٢٨ لوصول مبارك للحكم، ضارباً الرقم القياسي للرؤساء والملوك. فهل ستطلب الصحافة العفو وترقص في حفلات الكذب الرسمية؟ أم تصاب باكتئاب الحروب غير المتكافئة وتصمت سنوات تدخل فيها نفق «التقية»؟

وائل...