Strong>35 سنة حوّلت «المعجزة» إلى عجزعشية الاحتفال بمرور 35 سنة على انتصار حرب تشرين، كان الخبر الأساسي في مصر عن التحرّش الجنسي الجماعي. في القاهرة اعتقلت قوات الأمن عصابة من شباب ومراهقين، وفي المنيا انتهت حفلة التحرش بـ 5 قتلى. هذا هو الحدث الرئيسي بخلاف أخبار أخرى، من حوادث وتوابع كوارث من المقبرة الجماعية في الدويقة إلى حبس الصحافيين وعجز الحكومة عن تفادي المزيد من الحرائق (مجلس الشوري والمسرح القومي ومصانع نسيج غزل المحلة الكبرى). حرائق غامضة وسحابة سوداء تغطي مصر في هذا التوقيت من 10 سنوات. تأتي مثل الإشارات الرمزية الكبرى لتخنق المصريين وتثير رعبهم وهي تخفي ضوء الشمس، ولتبدو مصر هبة الضباب

وائل عبد الفتاح
وزير الدفاع المصري، المشير حسين طنطاوي، أرسل إلى الرئيس مبارك برقية تهنئة بمناسبة ذكرى حرب تشرين، قال له فيها: «نعتز بدوركم الوطني في تحرير الأرض». الرئيس نفسه سيقضي يومه بشكل روتيني: أكاليل زهور عند القبور الثلاثة (الجندي المجهول والرئيس السادات والرئيس عبد الناصر).
هناك تصور أن مبارك بعد 28 سنة من الحكم لا يزال يبحث عن شرعية. برقية وزير دفاعه إشارة مبطنة إلى أن شرعية مبارك هي «مشاركته» أو «دوره» في تحرير الأرض. الصحافة المتحركة بإشارات من قصر الرئاسة أفردت ملفات عن «الضربة الجوية»، وهي التسمية المنحوتة من دور مبارك قائداً لسلاح الدفاع الجوي في الحرب.
الصياغة الصحافية تعزل دور مبارك، وتختصر الحرب في طلعة الطيران، التي لم تتحول إلى أسطورة عسكرية، بل كانت سبباً في تقليص روح «حرب تشرين» وتبخر قدرتها لتكون الشرعية المحتملة.
نظام مبارك وريث أنظمة تستمد شرعيتها من ثورة الضباط الأحرار. لكن شرعية تموز انتهت تقريباً في تعديلات الدستور (2006). و«شرعية تشرين» انتهت سريعاً، لأن النظام نفسه دمرها قبل أن تصبح حقيقة واختصر الانتصار في شخص واحد لم يكن في الصدارة أو يتنازع عليها.
وهذه الذكرى الأولى التي تمر ومبارك منفرد بميراث تشرين بعد غياب المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، واستمرار الإقامة شبه الإجبارية للفريق سعد الدين الشاذلي، والصمت الإجباري لقادة مثل المشير عبد الغني الجمسي. هؤلاء جميعاً يتقدمون مبارك في شراكة النصر، وإبعادهم هو إقصاء للشرعية.
مبارك أيضاً لم ينتقل من شرعية أساطير الثورة والحرب إلى شرعية صندوق الانتخابات. وظلت الشرعية خليطاً إعلامياً من الضربة وهامش الديموقراطية. شرعية لا ترى اكتمالها إلا في القوة. قوة السيطرة والخروج عن النظام.
مبارك بعقلية الضابط البيروقراطي قوي الأعصاب. أدار «حرب ترويض» واسعة هيمن بها على إيقاع الحركة السياسية. أخطر سنواته كانت بين 1990 و1996 في معركته مع جماعات الإرهاب المسلح. بعدها، لم تكن صعبة السيطرة الشبه كاملة على إيقاع الكتلة النشيطة من المعارضة. واليوم بعد فترة تجاوز بها مدة حكم عبد الناصر والسادات معاً لا يوجد في السجون أو في الخارج كتل معارضة قوية.
مبارك يبحث بشكل ما عن شرعية «تحرير الأرض». بحث يتم من دون ضغط عصبي من المعارضة، فهو غير مضطر إلى «خريف غضب» جديد كما حدث عندما اعتقل السادات كل معارضيه وذهب إلى حفل انتصاره ببذلته العسكرية، التي وضع مصمم بريطاني اسمه عليها واستوحاها من موديلات الجيش الألماني. ذهب السادات بصولجان فرعون الذهبي السعيد بسجن معارضيه، الفخور بانتصار من صناعته، وانتهى المشهد بفرقة إعدام خرجت من صفوف جيشه وأنهت حياته وعلى وجهه علامة الدهشة والفزع.
مبارك ليس مضطراً أيضاً الآن إلى تهجير المعارضة ونفيها خارج مصر. هو قادر على الاحتواء واللعب وحده في الساحة بعد وضع كل معارضة في قفص زجاجي. إنها شرعية مبنية على «تعقيم» الآخرين. «شرعية خطرة» لا يعترف بها سواه، تجعله ينام مطمئناً، يحافظ على انفعاله المنضبط لكونه طياراً سابقاً، لا تخيفه سوى ضربة عشوائية.
هبات التحرش الجنسي علامة خطر. لم يلتقطها النظام قبل سنتين حينما حدثت في قلب العاصمة. أنكرتها الأجهزة الأمنية. رأتها شائعات كاذبة وأوهام مدونين لإحراج أجهزة الأمن. هذه السنة كان خبر القبض على المتحرشين صفحة أولى في صحف الحكومة نفسها. الأجهزة ألقت القبض على 36 شاباً وأفرجت عن أطفال مراهقين. وروت تفاصيل حفلة التحرش في حي المهندسين، اشترك فيها 100شاب أحاطوا فتيات في يوم العيد بدائرة رقص فيها الشباب رقصات الجوعى الذين عثروا على فريسة في الشارع.
«ثورة المقهورين» أو «هبّة العشوائيين» من أبناء النظام أو نتاج سياساته. إنجازه الحقيقي المميز عن أنظمة الملك أو عبد الناصر والسادات. التحرش هو ثورة العشوائيات المعمارية والأخلاقية على المدينة التي تحتضر، وعلامة على تحلل الدولة أو تفككها أو عدم قدرتها على السيطرة على ثورة رعاع آتية من المحرومين من أبسط وأول حقوقهم. وتحاول إشباع الملذات البعيدة عن متناول اليد بالقنص أو الاستيلاء.
ثورة الرعاع هي الرعب الكبير لنظام مبارك. قطاع طرق سيطالبون بحقوقهم المنهوبة في دولة انتصرت بمعجزة بشرية قبل 35 سنة ولا حديث في كل أركانها الآن إلا عن العجز. من المعجزة إلى العجز رحلة طويلة تعرض فيها من يسمون عادة «صناع النصر الحقيقيين» لإهانات متلاحقة بسبب سياسات طردتهم من رحمة الدولة. ونقلتهم من وضع شركاء في المعجزة إلى عجزة تتسول إعلانات التلفزيون التبرعات والصدقات لإطعامهم (في بنك الطعام) أو مؤسسات خيرية تقوم على الزكاة أو مستشفيات يظهر فيها أطفال مرضى بالسرطان لطلب تبرعات، في مشاهد ضد القانون والأخلاق. إنها سياسة «التسول» بدلاً من اعتماد سياسة تنمية.
الخلل بين الأعمال الخيرية والتنموية يحول التسول إلى سياسة مشروعة يبررها منطق أن الشعب عبء على النظام. وهو منطق يطرد روح المعجزة في تشرين ويثبت بدلاً منها مشاعر مضطربة بين الاحتقان والسخط وعدم القدرة على التحرك العاقل. مشاعر لا تقود إلى التغيير، بل إلى وضع عجيب تشعر فيه بحرارة نار متقدة على السطح، بينما الجسم بارد. الأسى لا يصنع وعياً بالتغيير، لكنه ينشر حالة عاطفية تميز مصر اليوم وهي تحاول أن تتذكر بصعوبة ملامح روح تشرين الهاربة، أو الضائعة تحت الرماد.


في انتظار «الكاكي الجديد»الجيش «رمانة الميزان» الأخيرة، كما يراه المغرمون بالدولة كما صممها نظام الضباط الأحرار. هو مؤسسة الدولة القوية الوحيدة الخارجة عن ألعاب السلطة المباشرة. وهناك تصور بأن إنجاز نصر تشرين الأساسي هو شحن حيوية الدولة المهزومة، إذ خرجت الدولة قوية بشكلها العسكري.
دولة الاستبداد استمرت. الفارق الوحيد أنه بعدما كان المستبد عادلاً تخلى عن العدل، وترك المجتمع غابة الانتصار فيها للأقوى. جمهورية الخوف استمرت. ومنعت الناس من مواجهة قائد الانتصار وهو يقتله قبل أن يتحول إلى روح جديدة تغير الدولة. ولهذا ينتظر الناس في مصر «الكاكي» من جديد لينقذهم من «الكاكي» القديم.