الأحداث في مصر متناقضة. تشير إلى أن البلاد لا تزال تعيش في العصور الوسطى، في وقت تملأ فيه مشاريع «المستقبل» المساحات الإعلاميّة والإعلانيّة. بين هذا وذاك، لا يزال الرئيس حاكماً بأمره يتصدّر صورة المشاهد الكوميدية السوداء في العاصمة المصرية
وائل عبد الفتاح
«قرار جمهوري بالعفو». لم تكن هذه وحدها الكوميديا. بل تفاصيل الخبر الذي أنهى أزمة حبس الصحافي إبراهيم عيسى بـ«عفو رئاسي». عفو بررته المصادر بعدم رغبة الرئيس حسني مبارك «في خصومة شخصية مع أحد». الصدمة لم تكن في حدث «العفو» ولكنها بصاحبه. الرئيس ظهر في المشهد الأخير ليقول بصوت رخيم: «عفونا عنك». «اللعبة حلوة»، كما قال روائي مغرم بالسينما، مشيراً إلى أن «لحظة الدخول مختارة بعناية محترفين»؛ يوم ذكرى «نصر» حرب تشرين، وعشية الوقفة الاحتجاجية.
لكن العفو لا يعني من وجهة نظر محامين إلغاء العقوبة أو نفي التهمة. هو «توقيف لتنفيذ الحكم»، تماماً مثل زيادة الرواتب، «لا تضاف إلى الراتب الاصلي. توضع فقط في بند الحوافز». والعفو يعني بقاء الحكم ويمكن العودة إليه وتغليظه إذا تكرر من الشخص نفسه.
من هنا الكوميديا المصرية في حلّ الأزمات ولاحلّها في الوقت نفسه. يُفرج عن ملياردير مثل حسام أبو الفتوح بعد ٥ سنوات في السجن من دون تهمة تذكر. ويحمد الملياردير والناس من حوله البراءة وينسون البحث عن السبب. المهم الإفلات. الخروج من المعتقل الذي دخله أبو الفتوح لسبب غامض. أُلقي القبض عليه ثم بدأ البحث عن تهمة: «حيازة أسلحة، تهريب خمور، التأخر في سداد مليار جنيه مصري لمصرف القاهرة».
التُّهم تساقطت تباعاً لعدم جديتها وبقيت تهمة المصرف. والعجيب أن المصرف رفض السداد تباعاً حتى صدر الحكم الأولي. وفي الاستئناف، خلال الأيام الأخيرة من رمضان، صدر الحكم بالبراءة. وزغردت العائلة وصدرت مانشيت «كفارة يا حسام» في أسبوعية «أخبار الحوادث». لكن الملياردير لم يخرج حتى الآن.
صورة عبثية لصراع درامي في كواليس السلطة والثروة. صراع لو جُرّد من السياق السياسي لتحول إلى كوميديا مصرية خالصة وكامنة في أقوى الأحداث دراماتيكية.
الفتنة الطائفية مثلاً تفجرت إحدى جولاتها في أوّل أيام عيد الفطر. المكان قرية اسمها «الطيبة» والضحية «يشوع». كان عائداً من الكنيسة بحسب رواية أبيه، جمال ناشد. أطلق عليه بعض المسلمين النار أثناء عودتهم من «غزوة» في وسط القرية انتقموا فيها من «معاكسة» (التعبير المصري للتحرش اللفظي بالنساء) بنات مسلمات. العائدون من معركة «المعاكسة» تصوروا أن الأقباط المتجمعين يتربصون بهم، فخرجت من بنادقهم رصاصات عشوائية أصابت أربعة وقتلت يشوع. الفتنة خمدت في القرية بعد قنابل مسيلة للدموع من قوى الأمن، التي اعتقلت 15 متهماً من مسلمين ومسيحيين. ستتحول إلى تفاوض على مصير المعتقلين وستختفي الفتاة من أصل القصة نهائياً ومحاولة التحرش بها لن يعود لها وجود.
اختفاء التحرّش هنا هو عكس قضيّة تحرش القاهرة، حيث أجهزة الأمن تبحث عن الضحايا الآن بعدما حولت 3 من المتحرشين إلى محاكمة سريعة الأسبوع المقبل. هروب الفتيات لا يخفف من الشعور بالرعب في شوارع العاصمة التي يحتلها قناصو الجنس في لحظات بينما تفشل قوافل إغاثة الفلسطينيين في الوقوف على سلم نقابة الأطباء أو الصحافيين.
كان هذا هو «حصار القاهرة» الذي تزامن مع احتفالات تشرين، التي نشرت صحيفة «الأخبار» المصرية التابعة للنظام رسماً في صدر ملحقها عن الذكرى يظهر فيه مبارك وحده وصفحات طويلة في تمجيد الضربة الجوية، بينما الرئيس الراحل أنور السادات «قائد الحرب»، لم يظهر إلا في الصحف المستقلة.
«الدستور» نشرت صورة كبيرة ومعها «قائد الحرب والسلام فعلاً»، وكأنها ترد على منشدي «الضربة الجوية». وفي «المصري اليوم» نشرت صورة السيدة جيهان السادات وهي تضع قبلة على رأس أحد قدامى المحاربين وبجوارها تصريح أمام قبر زوجها: «لا أزال أتذكر قفشاته وخفة ظله».
الخلاف في الصحف على قائد الحرب لم يكن موجوداً في «حروب أخرى» اندلعت في مدن حلوان وسوهاج والأقصر خلال الأيام الماضية. حروب عائلية تفجرت إحداها بسبب خلاف قديم بين «الحمادنة» و«العطاونة» في قرية، بعد إصابة طفل عمره 11 سنة برصاصة خطأً. الأمن هجر سكان القريعة التابعة لمدينة الأقصر. وفي حلوان كانت حرب «الشراقوة» و«العطافوة» التي انتهت بـ 15 رصاصة في جسد شاب ورصاصة واحدة عبرت الشرفات إلى رأس طفلة صغيرة.
حروب العائلات في قلب مدن كبرى ظاهرة غريبة. تتسرب معها أسماء كأنها من عصور قديمة لتكون عنوان المعركة من دون قيادات تقريباً. مواريث ماضٍ تصعد إلى سطح الأحداث لتتحول المدن إلى مستعمرات قبائل، كما يحدث في أفلام أميركية يركب فيها البطل آلة الزمن ويتجول بين عصور مختلفة. لكن في القاهرة الآلة خارج السيطرة، تتحرك عشوائياً بين حوادث من عصور قديمة وإعلانات عن مدن المستقبل، وسط شائعة جديدة عن اعتزال مبارك في نيسان، قد تكون بطلة الجزء الثاني من فيلم «عفو الرئيس».


هكذا يسخر المصريون من حالهم

نموذج للسخرية المصرية من واقعهم المعيش تصل إلى البريد الإلكتروني في صورة امتحان اللغة العربية، الذي يتخيل مؤلفه أن سؤال مادة التعبير فيه كان كالآتي:
- اكتب ما لا يقل عن 650 سطراً في أحد الموضوعات التالية: لم يجد الطفل غير الشارع ملجأً نظراً لحالة البلد «الهباب». فاتجه إلى السرقة والقتل والحشيش حتى نال جزاءه وقُبض عليه متلبّساً برزمة بانغو. اكتب قصته مع تسليم الحِرز للباشا مراقب اللجنة.
- شهد بلدنا الحبيب نهضة في مجال التشييد والبناء، وخصوصاً بعد وصول سعر الحديد إلى 7500 جنيه للطن الوحد. اكتب ما يمليه عليك ضميرك، على أن يبدأ موضوعك بعبارة أنا باشتغل في «حديد عز».
- بعد انتشار ظاهرة أكل لحم الكلاب والحمير. من وجهة نظرك كحمار، تكلم عن هذه الظاهرة ومن المتسبّب فيها من دون غلط، الورق مراقب.
أما سؤال مادة القصة فقد كان:
- من قصة «وعهد الله ما انت داخل الانتخابات»، اقرأ القطعة وأجب عن الآتي: «ثم أتى إليه وضربه بالجزمة، وقال: انت عايز تترشح في الانتخابات يا معفّن؟؟ أنت عايز معجزة، مش كفاية بتاكلوا لحمة كلاب وحمير ومستورين. عايزين إيه تاني؟»
- ما هي اللحمة؟ أو على الأقل حدّد أقرب معنى خيالي لها.
- مرادف معجزة في اللغة: تغيير وزاري ـ زيادة رواتب ــ رغيف.
- حلّل بمزيد من التفصيل جملة «ضربه بالجزمة» ومدى توافقها مع جملة «مصر بتتقدّم بينا» (شعار المؤتمر العام للحزب الوطني الحاكم).