سهيل قعوار تعاني الأسواق المالية في الدول المتقدمة ارتدادات تعثّر في أصول مالية بدأت في قطاع العقارات في الولايات المتحدة وانطلقت بسرعة إلى الأسواق الأخرى. وبصرف النظر عن أسباب الأزمة وارتباطها بنواحٍ يراها البعض سلبية في أسلوب عمل النظام الرأسمالي المتّبع في الدول المتقدمة، اهتم الكثيرون بالجواب عن سؤالين: (1) هل كان باستطاعة السلطات والأجهزة الرقابية عزل المشكلة وحصرها في السوق التي شهدت انطلاقتها؟ (2) هل بالإمكان منع امتداد الأزمة إلى القطاعات الحقيقية؟
يجب أولاً الإيضاح أنه رغم توجيه الاتهام إلى الممارسات السيئة للتمويل العقاري في الولايات المتحدة، فإن قطاعات العقارات في دول عدة في أوروبا، ومن أهمها بريطانيا وإسبانيا، كانت مرشحة للتعرّض لمشاكل مماثلة بسبب طفرة الإقراض والتوسّع في التشييد في السنوات الأخيرة. ولكن انفجار المشكلة في الولايات المتحدة طغى على هشاشة الأوضاع في بلدان أخرى.
بالإمكان الجواب عن السؤال الأول بدون التباس بالقول إنه كان من الصعب عزل الأزمة وحصرها في الولايات المتحدة، رغم تحرك السلطات الأميركية السريع لمعالجتها، ويعود ذلك إلى الارتباط الوثيق بين الأسواق المالية وتفشي استخدام الأدوات المالية المسبّبة للأزمة.
فالأزمة التي انطلقت من تعثّر المقترضين من ذوي الجدارة الائتمانية المنخفضة في سوق العقارات الأميركية (Sub-Prime borrowers) ومن ثم انتقلت إلى المؤسسات المالية الأميركية عن طريق أدوات التسنيد العقاري والابتكارات المالية التي صاحبتها، انعكست بسرعة على المؤسسات المالية في الدول المتقدمة. وتُظهر بيانات أعدها صندوق النقد الدولي أن خسائر المؤسسات المالية الأوروبية من خفض تقويم أصول مرتبطة بقروض عقارية تكاد تساوي الخسائر التي أظهرتها المؤسسات المالية الأميركية، وهي بحدود 250 مليار دولار لكل من المؤسسات الأوروبية والأميركية، وقدّر صندوق النقد الدولي أن مجموع خسائر النظام المالي الدولي قد تتجاوز 1300 مليار دولار، وهكذا انتقلت المشكلة من سوق إلى أخرى في الدول المتقدمة، فهل تنتقل إلى الأسواق الأقل تقدماً؟ من المرجّح أن المؤسسات المالية في الدول الأقل تقدماً لم تسهم في مقادير ذات أهمية في الاستثمارات العقارية في الأسواق المتقدمة، ولكن هذه المؤسسات ستتأثر بتراجع أوضاع المؤسسات المالية في الدول المتقدمة لكونها ترتبط معها بعلاقات تمويل للتجارة، وقد تتلقّى منها تدفقات رؤوس أموال، ومن المتوقع أن تتشدّد المؤسسات المالية في الدول المتقدمة في جميع استثماراتها، وسيؤدي هذا إلى تقييد أعمالها مع المؤسسات في الدول الأقل تقدماً.
الجواب عن الشق المتعلق بانتقال الأزمة من القطاعات المالية إلى القطاعات الحقيقية ليس بالسهولة نفسها، ولكن ذلك يرجع إلى تطورات لم تكن متوقعة في عمل الأسواق، فالمعروف أن الأسواق المالية ترتبط بالاقتصاد الحقيقي في كل بلد عن طريق تمويل عمليات الإنتاج والتسويق والاستثمارات.
في بداية العام الحالي، وبعد الإقرار بوجود مشكلة كبيرة في القطاع المالي، رأى الخبراء الاقتصاديون أن المعالجة اللازمة لاحتواء الأزمة على المدى القصير والحد من أثرها السلبي على القطاعات الحقيقية تتكوّن من: (1) توفير سيولة كافية للمؤسسات المالية المتمتعة بالملاءة، (2) تنقية ميزانياتها العمومية من الأصول المتعثرة، و(3) ضخ رؤوس أموال إضافية في القطاع المالي، وتدل التطورات على أن مزيجاً من هذه الإجراءات قد اتُّخذ منذ آذار 2008 عند انهيار بنك بير ستيرنز الأميركي، فقد وفرت المصارف المركزية الرئيسة في مرحلة أولى سيولة بحجم كبير لمواجهة خطر فقدان الثقة لدى المتعاملين، وأخيراً ذهبت ايرلندا وألمانيا واليونان أبعد بإعطاء ضمانات كاملة للودائع الخاصة، وحتى التزامات قطاعاتها المصرفية، وتدخلت السلطات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج وألمانيا وحتى إيسلندا لإنقاذ مؤسسات متعثرة، سواء بتأميمها أو ببيعها جبراً من مؤسسات مالية سليمة أو بإعادة رسملتها. وكانت آخر السبحة موافقة الكونغرس الأميركي على إطلاق برنامج معالجة الأصول المتعثرة برأسمال 700 مليار دولار. ولكن المفاجأة كانت في تجمّد عمل سوق الأموال القصيرة الأجل في الدول المتقدمة والارتفاع الكبير في أسعار الفائدة في أسواق تبادل الأموال بين البنوك، رغم توفير السلطات للسيولة وإعطائها الضمانات، وعلى ما يظهر فقد ازدادت مؤسسات سوق المال حذراً من الإقراض وارتفعت رغباتها في المحافظة على نقديتها، وأحد التفسيرات لهذا التطور كان ما حدث لصناديق سوق الأموال (money-market funds) بعد إعلان إفلاس بنك ليمان براذرز، إذ عجز أحد هذه الصناديق الذي كان قد استثمر مبالغ كبيرة في سندات ليمان براذرز عن الوفاء بطلبات سحوبات الودائع بالقيمة الكاملة، ما أدى إلى تهافت كبير على سحب الأموال من هذه الصناديق. وأدى ذلك إلى تحوّل الكثير من هذه الصناديق إلى الاستثمار في الأوراق الحكومية والأحجام عن توفير التمويل بطريقة شراء الأوراق التجارية القصيرة الأجل (commercial paper) التي تكون مصدراً رئيساً لتمويل القطاعات الإنتاجية في الدول المتقدمة، ومن المتوقع أن يستمر هذا الحذر والإحجام عن الإقراض إلى أن تُستعاد الثقة في قدرة المقترضين على الوفاء بالالتزامات. وإلى أن تتوافر بدائل لهذا التمويل، سينعكس هذا الإحجام سلباً على أعمال القطاع الحقيقي في الاقتصادات المتقدمة.