بعد 35 عاماً على حرب «يوم الغفران» التي اندلعت في السادس من تشرين الأول 1973، سمحت وزارة الدفاع الإسرئيلية بفتح الأرشيف ونشر عدد من المواد التي كانت مصُنّفة في خانة السرية. المواد التي كشف عنها تتضمن إفادات عشرين مسؤولاً إسرائيلياً أمام لجنة «أغرانات» الرسمية التي شُكّلت في أعقاب الحرب للتحقيق في إخفاقات الجيش عشيّة اندلاعها وخلالها
مهدي السيّد
خرجت شهادات لجنة «أغرانات»، التي بقيت سريّة بعد عام 2002، للمرة الأولى إلى العلن، أمس، لتكشف عن سلسلة من تبادل الاتهامات بين المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، الذين سعوا إلى تقاذف كرة الفشل. ومن بين أهم الشهادات التي سُمح بنشرها، برزت شهادة موشيه دايان، الذي شغل منصب وزير الدفاع خلال تلك الحرب. وقال دايان، في شهادته، إنه لم يعتقد بوجود حاجة إلى تجنيد قوات الاحتياط عشية الحرب، وعرض أمام اللجنة تقريراً استخبارياً كُتب قبل خمسة أشهر منها يبرر موقفه هذا. وجاء في التقرير «نحن واثقون جداً بأنفسنا من ناحية القدرة على صد الضربة الأولى، إلى درجة أننا لن نجند الاحتياط، ولسنا بحاجة في هذه الجبهة الى تجنيد الاحتياط. ولن يكون فَرق في هذه الجبهة (الجنوبية) باستثناء القليل من المدافع. وهنا نحن نشعر بأنه لا ينبغي تجنيد الاحتياط، وهذا يكفي للجم الهجوم، إضافة إلى سلاح الجو».
وبحسب كلام دايان، طلب من رئيس الأركان، ديفيد ألعيزر، قبل أيام من نشوب الحرب، فحص التحركات السورية. وروى أنه في اجتماع تقويم للوضع كُتب أنه «لا نعرف بشكل يقيني النيّات السورية». وبعد ذلك أشار دايان إلى أنه لم تكن هناك مؤشرات كافية يمكنها أن تدل على أن ثمة للجيش السوري فعلاً نيات هجومية على المدى القصير.
ولجأ دايان أيضاً إلى التقرير الاستخباري، الذي جاء فيه «بحسب رأينا، سوريا لا تقدر على المخاطرة في حرب شاملة مع إسرائيل على الأقل من دون خوضها بالاشتراك مع مصر». وروى دايان لأعضاء اللجنة أنه خلال يوم الغفران، ساد الاعتقاد بأن الحرب ستنشب خلال ساعات المساء. وقال إن رئيس الأركان طرح إمكان إرسال طائرات للجو بهدف ردع المصريين والسوريين، وإنه خلال ساعات الظهر المبكرة عرفت إسرائيل أن الحرب قريبة. وأضاف «عند الثانية عشرة ظهراً تمّ الأمر. الحرب هي الحرب والسؤال كان ما إذا كان ينبغي تجنيد 100 ألف أو 50 ألفاً. قالوا: ينبغي تجنيد الجميع. هذا الاعتبار السياسي حسمته رئيسة الحكومة غولدا مائير، فقد علمت أن 100 ألف يعني 150 ألفاً». وأوضح دايان للجنة أنه ترك للجيش عملية اتخاذ القرارات بخصوص العمليات الميدانية.
وقد أجاب وزير الدفاع دايان مرات عديدة عن أسئلة أعضاء اللجنة بالقول إنه لا يتذكر، لكنه تذكر معلومة استخبارية أدت لاحقاً إلى تضليل الجيش الإسرائيلي. فقد سأله القاضي أغرانات: «هل أملتم يوم الغفران أن الحرب قد لا تندلع رغم كل شيء؟ ماذا سيحصل لو اضطررنا إلى تحرير الاحتياط في حال عدم نشوب الحرب؟». فأجاب دايان: «أجل هذا احتمال. كل ما كان لدينا حتى ذلك الوقت هو معلومة. لم يكن في وسعنا الافتراض بأن الحرب ستبدأ في صباح يوم الغفران، نتيجة ما نراه على الأرض. لكن ماذا حصل؟ وصلتنا معلومة من المدينة الفلانية تفيد بأن شخصاً معيّناً يقول: اليوم في السادسة ستبدأ الحرب. لم يتعلق الأمر بمؤشر ميداني يفيد بذلك. لذلك كان السؤال: هل معلومته دقيقة أم لا؟ وما لم تُطلق النار ـ كلا...»، وهنا منعت الرقابة نشر تتمة هذه الجملة.
من جهته، حمّل الجنرال ديفيد ألعيزر، في إفادته أمام اللجنة، القيادة السياسية، ممثلةً بشخص وزير الدفاع موشيه دايان، مسؤولية المفاجأة الاستراتيجية التي وجدت إسرائيل نفسها في مواجهتها ساعة الحرب. وقال إن الرئيس المصري أنور «السادات حقق ما أراده بشكل مطلق: ففي ظهيرة 6 أكتوبر ضُبطت دولة إسرائيل وسروالها إلى الأسفل». وأضاف «قبل ثلاثة أيام من الحرب، قدرت شعبة الاستخبارات العسكرية أن المصريين سيفتحون المعركة عند ساعات المساء، وفقط قبل يوم أو يومين من ساعة الصفر قرر المصريون والسوريون تقديم الموعد وجعله في وقت أبكر. الجيش الإسرائيلي الذي انتظر الحرب عند السادسة (مساء) ذُهل، ولم يكن جاهزاً بسبب أوامر المستوى السياسي».
وتمحور الجزء الذي كشف عنه من شهادة ألعيزر حول روايته لما حصل في الاجتماع الحكومي صبيحة يوم الحرب. وأشار إلى أنه شدد أمام الحكومة في ذلك الاجتماع على أن الحرب واقعة. وقال «كنت واثقاً كلياً من وقوع الحرب ولم أتفاعل مع الحديث الذي دار حول ضرورة الحذر (في التدابير المتخذة من الجانب الإسرائيلي)».
وأوضح ألعيزر أن «الموضوعين الرئيسيين اللذين كانا على طاولة النقاش في ذلك الاجتماع هما الضربة الاستباقية وتجنيد الاحتياط». وأضاف أن «وزير الأمن افتتح (النقاش) بضربة استباقية ضد الضربة الاستباقية، أقصد أنه بدأ بشرح مبررات عدم القيام بضربة استباقية، وقال إننا لا يمكن أن نسمح بذلك هذه المرة، فبناءً على الأخبار الموجودة لدينا، لا يمكننا أن نوجه ضربة استباقية حتى قبل خمس دقائق».
أما في ما يتعلق بتجنيد الاحتياط، فروى ألعيزر لأعضاء اللجنة كيف رفض دايان مطلبه باستدعاءٍ واسعٍ للاحتياط، مقترحاً عوض ذلك الاكتفاء بتجنيد احتياط سلاح الجو بأكمله وتجنيد فرقة مدرعة في الجولان وأخرى في سيناء، «وإلا سنكون نحن من يصنع الحرب».
أما أرييل شارون، الذي كان قائد الفرقة 143 خلال الحرب، فقد شن في شهادته انتقاداً لاذعاً على قيادة الجيش العليا التي تخاصم معها آنذاك. وقال إن «النقطة التي أردت التشديد عليها والتي شكّلت برأيي إحدى العلامات البارزة التي تكشفت طوال الحرب، والتي سببت ضرراً خطيراً جداً لإدارة الحرب، هي غياب القادة الكبار عن الميدان».
وأضاف شارون «على سبيل المثال، لنأخذ يوم الثامن من تشرين الأول. كان يجب أن يكون قائد المنطقة في المكان، أو نائبه، كي يرى ما يحصل وينسق بين القوات. الكثير من الأخطاء وقعت نتيجة لذلك». وتابع «كانت هناك أمور كثيرة مرتبطة بالأجواء العامة، وهذا أمر لم أكن معتاداً عليه. عندما كنت أحاول الإقناع، كنت أحصل على جواب فظ وحاسم. كانوا يقولون لك: هذه حقيقة وانتهى. كانوا يُغلقون لك الجهاز ويُغلقون لك فمك، وبذلك ينتهي الموضوع. كبار القادة لم يكونوا في الميدان».
وفي معرض تفسيره لغياب كبار القادة، أرجع شارون الأمر إلى كونهم لم يدركوا ما كان يحصل ميدانياً. وأضاف «بالنسبة لي لم أغب يوماً واحداً ولا ساعة واحدة عن المكان. كان ذلك صعباً، كانت هذه الحرب جحيماً فظيعاً. لكن لم يكن هناك خيار، كنت مضطراً إلى أن أكون موجوداً في المكان نفسه».
ووصف شارون صورة الوضع في غرفة العمليات بأنه كان «صعباً للغاية في ما يتعلق بالقتلى الذين اتضح أننا خسرناهم». وأضاف منتقداً رئيس الأركان «رأيت بعبور القناة الإمكانية الوحيدة لإخراج المصريين من توازنهم وقد تحدثت عن ذلك مع رئيس الأركان الذي اعتقد أنه إذا كان سيؤدي ذلك إلى خسارة 50 دبابة فلا حاجة للقيام بذلك. ونزلت إلى غرفة العمليات وطرحت مطلبي مجدداً، وقال لي قائد الجبهة إنه لا يرى إمكانية لتنفيذ ذلك الليلة، وعملياً تم حفظ هذه الخطة لإنقاذ الجنود في الحصون في الليل، وبدلاً منها تم وضع خطة أخرى، تم الاتفاق عليها بغيابي لأني تأخرت بسبب تأخر المروحية، وقد تحدثت الخطة الجديدة عن شن هجوم صبيحة الغد». وفي ما يتعلق بالقوات الإسرائيلية «كانت في حالة بلبلة عميقة ولا مثيل لها، حتى ذلك الوقت لم نشهد هزائم».
كذلك وجه قائد الجبهة الجنوبية، اللواء غونين (غورديش)، في إفادته، اتهامات إلى قيادة الجيش. وقال إنه طالب بتعزيزات، لكنه قوبل بالرفض وأنه طالب بإلغاء الإجازات عشية يوم الغفران، أي في اليوم الذي سبق نشوب الحرب. لكن رئيس شعبة العمليات في هيئة الأركان العامة لم يصادق على ذلك بداية. وعاد ووافق بعدما هدده غورديش بالتوجه إلى رئيس الأركان.
وفي ما يتعلّق بيوم اندلاع الحرب، قال غورديش إنه «قبيل الفجر، استدعيت إلى رئاسة الأركان وخلال الاجتماع قال لي (رئيس الأركان) إنه ذاهب الآن إلى اجتماع الحكومة ليطلب تجنيد الاحتياط وإنه يعتزم المطالبة بتجنيد شامل. وقال لي أيضاً إنه سيقترح تنفيذ هجوم استباقي ينفذه سلاح الجو عند الساعة 12:30 أو 13:00 في سوريا وضد سلاح الجو السوري وقواعد الصواريخ».
وحول خطة شارون لنشر لواءين عند ضفاف قناة السويس ولواء ثالث خلف القناة، قال غورديش «أجرينا مشاورات مع رئيس الأركان قبيل تحريك القوات، وكان المبرر (لرفض الخطة) عدم إظهار تحركات وتجمع دبابات أمام المصريين في وقت مبكر جداً لأنهم إذا شاهدوا ذلك فسيكون بإمكانهم تغيير خطط المدفعية وخطط لغارات جوية ضد هذه التجمعات».


تقرير لجنة «أغرانات»


في 18 تشرين الثاني 1973، قررت الحكومة الإسرائيلية برئاسة غولدا مائير تشكيل لجنة تحقيق رسمية برئاسة القاضي شمعون أغرانات للتحقيق في إخفاقات المستوى العسكري خلال الحرب.
وألقت اللجنة، في تقريرها، بالمسؤولية الرئيسية على قادة الجيش، وتحديداً على شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان» التي كان مسؤولوها «أسرى تصور خاطئ في ما يعني تقدير معقولية الحرب». في المقابل، برّأت اللجنة القيادة السياسية من المسؤولية المباشرة عن إخفاقات الحرب، لكن الاحتجاج الشعبي أدى في نهاية المطاف الى استقالة مائير، ووزير الدفاع موشيه دايان.
يشار إلى أن الجزء الأكبر من تقرير «أغرانات» بقي سرياً حتى نهاية عام 2006، حين أوصت لجنة خاصة بنشره، وهو ما حصل باستثناء بعض الأجزاء التي لا تزال تعتبر سرية.