لم تعد الأنفاق في غزة وسيلة فلسطينيّة لكسر الحصار الإسرائيلي والعربي والدولي، بل دخل تنظيمها في إطار موازنة الحكومة المقالة ومؤسساتها عبر رسوم وتعهدات لحماية العاملين فيها
غزة ــ قيس صفدي
أضفت حركة «حماس» شرعية حكومية على «تجارة الأنفاق» في قطاع غزة، عبر إلزام أصحابها توقيع تعهدات لدى شرطة مدينة رفح لدفع تعويضات مالية لمن يفقد حياته خلال العمل في هذه الأنفاق عرضياً أو بفعل الغاز المصري السام.
وقال أصحاب أنفاق، في أحاديث منفصلة مع «الأخبار»، إن «التعهد يتضمن إلزامهم بترخيص أنفاقهم لدى بلدية رفح»، التي يرأسها القيادي في «حماس»، عيسى النشار، على أن تزود البلدية بدورها الأنفاق بالكهرباء وإجراءات التهوية في مقابل رسوم تقدر بنحو 10 آلاف شيكل (الدولار يعادل 3.6 شيكلات).
ويصف العارفون ببواطن الأمور المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر، والممتدة على مساحة 10 كيلومترات في محيط بوابة صلاح الدين أو ما يعرف إسرائيلياً باسم «محور فيلادلفي»، بأنها «جمهورية أنفاق» ينتشر تحتها نحو 250 نفقاً، تمثّل مصدر رزق وحيداً لمئات الشبان العاطلين عن العمل.
وقد لجأ «الرفحيون»، نسبة لسكان مدينة رفح، إلى حفر أول نفق للتهريب غداة إقامة الشريط الحدودي في أعقاب ترسيم الحدود بين مصر والدولة العبرية عام 1982 بموجب معاهدة «كامب ديفيد»، وتسبب في شطر المدينة إلى نصفين: فلسطينية ومصرية.
ومع اشتداد الحصار وزيادة «المستثمرين» والعاملين في الأنفاق، زادت معدلات القتل «وإصابات العمل». وبحسب تجمع أهالي ضحايا الأنفاق، فإن 45 عاملاً قتلوا في الأنفاق منذ بداية العام الجاري، لأسباب تتعلق بانهيارها أو الصعقات الكهربائية، أو استنشاق الغازات السامة التي يضخها الأمن المصري في إطار «حربه» الشرسة لمكافحة هذه الظاهرة.
وقال صاحب نفق، لـ«الأخبار»، إن حركة «حماس» «تسعى من وراء ترخيص الأنفاق والتعهدات إلى تقليل حوادث القتل وسقوط الضحايا، وإجبار أصحاب الأنفاق على اتخاذ إجراءات السلامة لحماية أرواح العاملين». وأضاف إن التعويضات المالية، التي ينص عليها التعهد والمعروفة شرعاً باسم «الدية المحمدية»، لذوي أي عامل يفقد حياته خلال العمل تبلغ نحو 40 ألف دولار.
وتخفي حركة «حماس» دعمها لظاهرة الأنفاق وسيطرتها عليها، وتتعامل بحذر مع الأمر، خشية تدهور علاقتها مع مصر، التي تشهد في الأساس توتراً ملحوظاً.
وقال صاحب نفق، رفض الكشف عن اسمه، «لولا الضغط الأميركي والإسرائيلي لما قامت مصر بمحاربة الأنفاق التي تدر عليها ملايين الدولارات من قطاع غزة». وتساءل باستنكار: «ماذا يريدون منا؟ يحاصروننا، ونشتري بضائعهم بالملايين، وندفع أجرة للمهرب المصري (يعرف لدى أصحاب الأنفاق باسم الأمين) تفوق راتب وزير مصري وحتى الرئيس».
وقال محمد (24 عاماً) إنه فقد أربعة من «أعز» أصدقائه قبل بضعة أسابيع جرّاء استنشاقهم الغاز السام الذي تضخّه قوات الأمن المصرية في الأنفاق. وكاد محمد نفسه يفقد حياته عندما احتُجز لساعات طويلة داخل نفق انهار جزء منه قبل أن تتمكن فرق الدفاع المدني من انتشاله. وقال «لقمة العيش مُرّة، وأسرتي بحاجة إلى المال لتوفير متطلبات الحياة».
وبحسب محمد، فإن العمل داخل الأنفاق له «قوانينه»، ويستند إلى اتفاق مع صاحب النفق، حيث تراوح أجرة العامل اليومية بين 100 شيكل و300. ويكلف حفر نفق بطول 1500 متر نحو 100 ألف دولار، ويستغرق العمل فيه نحو ثلاثة أشهر على مدار الساعة، وذلك حسب العمق ونوعية التربة.
وأوضح صاحب نفق آخر أن «الحفر بحاجة إلى محترفين يستخدمون عقولهم لا أجسادهم فقط، لتقدير العمق ومعرفة نوعية التربة»، لافتاً إلى أهمية الحرص على الوصول إلى التربة الطينية قبل البدء في الحفر أفقياً لمنع انهيار النفق. وأضاف إن هناك «قوانين وأصولاً» تحكم علاقة «الحفّارين» بأصحاب النفق، فإما أن يكون العمل بالأجرة أو شراكة، مشيراً إلى أن العامل في الحفر يحصل على 100 دولار عن كل متر، فيما يفضّل آخرون مشاركة صاحب النفق مناصفة.
ويتفاخر أصحاب الأنفاق بـ«الخبرة» التي يمتلكونها بعد سنوات من العمل، والملاحقة والمطاردة من المصريين والإسرائيليين، وحتى السلطة الفلسطينية السابقة. ويقولون: «لا يوجد من يستطيع منعنا من مواصلة العمل».