بائع عصير الرّمّان يتّكئ على عربته، يشعل سيجارته بصمت، محدّقاً في فراغ الشارع. من ورائه مجموعة من الشبّان العاطلين من العمل، يسترقّون النظر إلى الشرطة المتجوّلة. نقاش بين شبّان وصحافي إسرائيلي يحتدم إلى حدّ الصراخ ليزيد من توتّر الرّقعة المشحونة. حركة سير خفيفة، وعنفوان تكتمه الجدران. من اعتاد المجيء إلى عكّا القديمة، يدرك بأنَّ شارعها اليوم منهك تنقصه الأصوات والألوان في مدينة باتت بين عاصفتين
عكا ــ فراس خطيب
ما أشبه اليوم بالأمس. الأنباء والمشاهد المنقولة من «ميدان المعارك»، تأخذ المتأمّل إلى المكان الفلسطيني المألوف أبداً قبل كل «انفجار»؛ فالمواجهة لا تندلع بفعل «حدث صغير» يتطوّر، بل هي محصلة أحداث كبيرة، يشعلها حدث صغير. ومشهد عكا اليوم، يعيد عجلات «الزمن الأصفر»، إلى «تشرين 2000»، حين هبَّ فلسطينيّو 48 مع انطلاق الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة. كان عنوان الهبّة تضامنياً مع الإخوة القابعين على الجانب الآخر للحاجز، لكنَّ أصل الحكاية والانفجار يمتد إلى سنوات من التهميش والتجاهل والعداء والتضييق، وشعور مكتوم بالظلم، انفجر خلال مشهد الطفل محمد الدّرّة، وهو يموت بين يدي والده.
هذه المرة، يقول أحمد، الذي يسكن خارج الأسوار، ويأتي يومياً إلى البلدة القديمة، إن «تشرين يعود إلى عكا. أهل هذه المدينة يعانون التضييق والهميش إلى حدّ انفجارهم. الاعتداء كان القشّة التي قصمت ظهر البعير، والسنوات تحكي».
من يخاطب أهل عكا العرب، يدرك بأنَّ خروج المئات منهم نحو المواجهات، جاء «بعدما انفجرنا»، كما يقول أحد الشبان: «نحن نعيش في طنجرة ضغط. وهم يضغطوننا أكثر وأكثر. من رئيس البلدية حتى الحكومة. نقول كفى، فعلاً كفى. هذه لم تعد حياة طبيعية».
على مدار ليلتين، شهدت المدينة عراكاً. مجموعة من الشبّان اليهود يعتدون على شاب عربي ليلة الغفران. يحطمون سيارته، فيهرب منهم إلى البيت القريب. يحاصرون البيت ويرشقونه بالحجارة. يهتفون «الموت للعرب». يطلب أهل البيت النجدة، فيتجه المئات من سكان المدينة العرب لتخليصهم، وهناك يقع العراك.
وفي اليوم التالي، مجموعة يهودية تقتحم حيّاً عربياً خارج الأسوار، ومرة أخرى تندلع المواجهات: «كان أفراد الوحدات الخاصة يطلقون علينا الأعيرة المطاطية، ويضربوننا بالهراوت، لكننا لم نر رصاصة واحدة اتجهت نحو اليهود»، يقول شاب عكّاوي. ويتابع «لقد وضعوني في سيارة الشرطة، وقالوا لي إياك أن تتحرك، وصار الشرطي يشتمني ويشتم العرب بعبارات نابية».

الطريق إلى الكنيس

في هذا المكان يبوحون بمرارة العيش، لتسقط معادلة «المدينة مختلطة»: «هناك شعبان منفصلان يعيشان في مدينة واحدة. وكفى للحديث الكاذب عن التعايش»، يقول أحد سكان المدينة». ويكمل آخر: «لقد اعتدوا على العرب، في وقت نحن نحترم فيه الآخرين. كانوا يأتون إلى البلدة القديمة ويستفزّوننا ونحن صامتون. فهم يملكون كنيساً في قلب السوق. ولم نعتدِ ذات يوم على مقدّساتهم. لكنّهم يطالبوننا دائماً بطلبات عنصرية ولا يحتملون حتى صوت الأذان».
الطريق المؤدية إلى الكنيس المذكور صعبة والتفافية، إلى حدّ الوصول إلى ممر ضيق. لا يشبه الغيتو، بل هو الغيتو بعينه. خمس عائلات تسكن في أقل من عشرة أمتار. نساء «الحيّ» يجلسن في الممر الضيق: قهوة وأطفال يلعبون في ضيق المكان. ومن بقي من أفراد العائلة يطلّ من النوافذ العالية. مشهد غريب للغريب، لكنّه مألوف في الحي القديم. في آخر الممر (أو النفق) يقف جنديّان مدجّجان بالسلاح، إلى جانبهما امرأة تقطم أوراق الملوخية، يحرسان باباً صغيراً يقع في عمق الممر، هو باب الكنيس.
تقول امرأة بصوتٍ عالٍ: «يأتون إلى قلب بيوتنا، إلى هذا الكنيس، ولم يسمعوا كلمة سيّئة ذات يوم. يأتون في الأعياد وأيام السبت ونحن نحترمهم. لكنهم، في شهر رمضان، طالبوا بإلغاء الأذان في حي فولسون (حي خارج الأسوار يسكنه العرب)».
مدخل الكنيس ملاصق لمداخل البيوت. نسأل ولا أحد يجيب عن تاريخ الكنيس، حتى أتت سيدة كبيرة في السّنّ «هذا بيت سكنته عائلة عكّاوية قبل سنوات. هجروه إلى قرية المكر (بجانب عكا). كان البيت مرتعاً للفئران، وجاء اليهود بعد العائلة ورمّموه وجعلوه كنيساً وقالوا إنه تاريخي».
لا يمكن الدخول إلى الكنيس، الجنديان لا يتحركان. حين تطلب الدخول يرفضان بحزم من دون نقاش، إلى أن أتى الضابط «البراغماتي»: «لماذا ترفضان إدخاله، تفضّل، لا نخفي شيئاً هنا». في قلب الكنيس، أكثر من عشرة مجنّدين مدجّجين بالسلاح. على ما يبدو لـ«حماية الكنيس من العرب» على الرغم من أنه لم يتعرّض ذات يوم لأي هجوم يذكر.
أهل الممر هم حالة مألوفة عن أهل البلدة القديمة، يصرخون بكل المآسي. يصنعون من الصراخ فرصة للبوح بالمكتوم على مدى عقود. امرأة تصرخ بكل ما أوتيت من صوت لتحكي عن حالها: «يسألوننا ماذا ينقصنا؟ عليهم أن يسألوننا ماذا لا ينقصنا. زوجي يعمل في جمع القمامة. نعيش ستة أنفار من راتب شهري لا يكفي لولد واحد. ممنوعون من توسيع بيتنا. ممنوعون من ترميمه أو فعل أي شيء. ممنوعون من كل شيء».
وتدخل امرأة أخرى إلى النقاش: «لقد مات والدي قبل أن يكتب وصيّة بها يورثني البيت. عندما مات، قالوا لي في العميدار (الشركة الحكومية التي تمتلك بيوت عكا) إنهم سيأخذون البيت مني وأتوا بقرار من المحكمة من دون أن أعلم بوجود المحكمة أصلاً. وأنا اليوم في بيتي، مستأجرة غير محميّة، يستطيعون أن يرموني في الشارع متى يشاؤون».
يحكي أهالي البلدة عن مخططات لـ«تهويد المكان». عن صفقات لشراء بيوت في المدينة وإسكان يهود هناك. تماماً كما في القدس واللد والرملة ويافا: «يأتون بواسطة السماسرة، ويقترحون مبالغ طائلة لإغراء الفقراء ليبيعوا البيت ويخرجوا من المكان».
الحال منتشرة في عكا، وباتت في الأعوام الأخيرة هي القضية، إلا أن محاربتها صعبة للغاية: «هناك عشرات البيوت والمحالّ التجارية المغلقة اليوم، لا نعرف مصيرها ولا من اشتراها. وقد سكنت في الآونة الأخيرة أكثر من عائلة في البلدة القديمة. إنهم متّجهون لتهويدها».
الممر الذي لا يزيد على عشرة أمتار كان مثقلاً بالهموم. الناس يريدون التعبير عن حالهم، أن يحكوا: «فليسمع كل العالم ما نعانيه».
هكذا يغادر الزائر مثقلاً بالهموم. كم كان أهل هذه الرقعة المنسية بحاجة لتفريغ طاقات متراكمة بفعل السنين والفقر. كم كانوا بحاجة إلى الابتعاد، ولو للحظة عن هامش الصفحة. فمن الصعب وصف حالة تفيض منها المشاعر بهذه الطريقة. كانت امرأة تحكي وتحكي إلى حد انفجارها بالبكاء، لتمضي خجلاً إلى إحدى الزوايا المظلمة، ربما لتبكي أكثر. وليبقى مشهدها بعيداً عن الأضواء، تماماً كمدينتها.

صمت الحناجر

الخروج من المكان يعني البقاء في السوق الخالي من الغرباء. ليموت المشهد موتاً مؤقتاً قد يطول. الممرات خالية وهادئة. والتجار ساكتون هذه المرة، لقد تنازلوا عن صيحاتهم الملحنة، فلا فائدة من صوت يضرب الجدران الخالية. كم تغيّر السوق في هذين اليومين. حتى «غوّار»، صاحب المسمكة الأكبر في السوق وصاحب الضحكات العالية، يبدو حزيناً هذه المرة. يتناول مكبّر الصوت، ويعلن التنزيل تلو التنزيل، لكنْ لا أحد يسمع.
لا شيء يحيا في هذه الأوقات سوى المقاهي التي تؤوي المتقاعدين والشبان العاطلين من العمل. أمير يقول: «الشبان هنا لا يعرفون ماذا يفعلون. لا فعاليات ولا نوادي ولا مراكز جماهيرية ولا أماكن عمل. ماذا يتوقعون منّا».
الشبان يمتدون على طول الطريق. بين كل أربعة هناك نرجيلة تغازل فراغ المكان وتزيده غربة عن الواقع المنشود. كلهم على هذه الرقعة يعانون من كل شيء. ويقول أحد الصيادين: «ماذا تريد مني، أخرج عند الساعة الرابعة صباحاً إلى البحر، وأعود فارغ اليدين في الساعة العاشرة صباحاً. حتى البحر لم يعد من سمات هذه المدينة».
الأحداث لم تكن في البلدة القديمة، لكنَّ الجميع يعرف أن الناس العالقين بين الأسوار هم أصل الصراع. يحيون في هدوء قابل للانفجار في أي لحظة، وخصوصاً في ظل واقع تنعدم فيه الحلول. لقد حلّت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني ضيفة على المدينة. وقالت من دون تحفّظ إن على «الجميع احترام الغفران». وأضافت «يجب تحسين العلاقات بين اليهود العرب». ولكن من يزور المدينة ويقترب من حقيقتها يدرك بأنَّ الحل بعيد، ما دام الناس يعيشون تحت هذا المكان الثقيل.
من يغادر المكان، يعي جيداً أن الأحداث لم تكن وليدة اللحظة بقدر ما كانت وليدة المرحلة، ولن تعود الأمور إلى حالها مهما حاول المسؤولون تجميل الواقع. أحداث عكا، ستظل ثقباً في التاريخ والمكان، ولن تفلح مهرجانات «التعايش» في تغيير هذه الصورة القاتمة. من يزُرِ المكان، من يشتمّ هواء الصراع هناك، يدرك بأن الحل بعيد، ولن يأتي ما دام هؤلاء الناس يعيشون على هامش الصفحة.


استنفار في المدن المختلطة

عكا ثكنة، الحواجز تحيط الأحياء العربية. وفي أطراف المدينة، تستعد فرق الخيّالة التابعة للشرطة لحال انفجار المواجهات. هذه المشاهد، تثير حفيظة أهالي المدينة العرب: «نحن نشعر بأن هذه الشرطة جاءت لتحمي اليهود، لا من أجل حمايتنا». وفتحت المدارس أبوابها، لكن معطيات نشرتها بلدية عكا دلّت على أن 40 في المئة من الطلاب فقط توجّهوا إلى مدارسهم، التي تم تعزيز الحراسة عليها أيضاً. ودعا طلاب المدارس اليهودية في عكا إلى عدم التوجّه إلى الدراسة احتجاجاً.
في موازاة ذلك، رفعت الشرطة من حالة التأهب في صفوف قواتها في المدن المختلطة مثل القدس المحتلة وحيفا ويافا والرملة واللد وفي منطقة المثلث الشمالي، حيث طريق وادي عارة الرئيسية التي تربط وسط فلسطين المحتلة بشمالها.