عاكف مشارقةكان جد عبد القادر، وهو أبٌ لسبعة أطفال وثامنهم طفلة شهيدة، يعمل في الزراعة في قرية الفالوجة قبل وقوع النكبة ولجوء أهل القرية إلى غرب مدينة غزة، حيث أقاموا مخيماً سمي "الشاطئ" لتربعه على شاطئ بحر غزة. وعبد القادر صياد في أواخر العشرينيات من عمره، يعيل أبناءه وزوجته من مهنة الصيد. يحاول عبد القادر دائما أن يجري مقارنة في المهنة بينه وبين جده: « أيهما أفضل، مهنة الصيد الممتعة في مخيم اللجوء، أم مهنة الزراعة المتعبة في بلادنا الأصلية؟»، فتعود به الذاكرة إلى عبارات جده الذي توفي عندما كان يقول له: "كل أكلنا وحياتنا كان من خير الأرض".
أما عبد القادر فلم تعد مهنة الصيد تكفيه إلا لسد رمق أسرته ذات العدد الكبير، ولقضاء بعد الحاجيات الأساسية. يعجبه تحلق الأطفال حوله كل مساء عندما يعود من العمل منهكاً، تأتيه سندس الطفلة الصغرى وتطلب منه بتودد:" بابا اشتريلي طيارة متل اللي بنشوفهم بالسما وبرموا نار ع المخيم"، يرد عليها والدها بحركة موافقة من رأسه، ثم تعود كرة أخرى بطلب آخر، شاكيةً أمها له" بابا!

ليه ماما ما بترضى تحكيلي وين أختي بيان راحت؟"، فيجيبها محاولاً الا يجرحها " بيان راحت مشوار بعيد، بعد البحر، ورح ترجع". فترد وكأنها اقتنعت بحجة والدها: " إيه بدي استناها، عشان تلعبني وتحضني". لم تدرك سندس الصغيرة أن أختها ذهبت بلا رجعة إلا عندما أصبحت في السادسة من عمرها، أي بعد استشهادها بعامين، كانت سندس خلال هذين العامين تتنزه بشكل شبه يومي على شاطئ البحر، وتنتظر عودة أختها من خلف الافق اللامتناهي، لكن هيهات!
عند الفجر، يتجه عبد القادر إلى الشاطئ، يكون موج البحر هادئًا. يُخرج القارب والشباك من غرفة المعدات، وينزل بهما إلى البحر، لكن حالما يرى الاعداد الهائلة من الصيادين سارحين في الوقت ذاته، يتجهم وجهه، ويسأل نفسه «أيوجد عدد كافٍ من الأسماك لكل هؤلاء في هذه الاميال الضئيلة المسموح بالصيد فيها؟». ثم يفكر في أن عليهم مساعدة الأسماك على التزاوج في هذه الأميال الضيقة كي تتكاثر ويتوافر ما يشبع جميع البطون الجائعة في القطاع المحاصر باطول حصار على مر التاريخ. نبهه رفيقه إلى أن الشباك الملقاة في المياه بدأت ترتعش وتزداد ثقلاً. إن سوء أوضاع الصيد، وشحّه، في ظل مسؤوليته تجاه أسرته الكبيرة، أشعراه بثقل الحال، وولّدا لديه حالة مستمرة من تشتت الذهن، إضافة إلى شعوره الدائم بالخطر، لا من أمواج البحر وأهواله، بل من الزوارق الحربية الإسرائيلية، التي تمخر البحر على بعد عدة أميال قليلة، راسمةً حدوداً للصيادين.
ففي إحدى المرات أطلقت هذه الزوارق نيرانها نحو الصيادين- برغم أنهم لم يتخطوا الأميال المسموح بها- وأصابت عدداً منهم، فلم يكن بوسع عبد القادر إلا أن يحاول إيصال المصابين إلى المرفأ لإسعافهم، تاركاً شباكه وأسماكه تهرب.
يا لقسوة أمواج بحرنا! تهدينا رصاصاً من ذخائر الزوارق الإسرائيلية، وتصد عنا الأسماك وقوت حياتنا. انتهى يومه وقتئذ بمساعدة المصابين والمكوث بجوارهم حتى ساعات المساء المتأخر، فرفاق البحر مميزون بوفائهم، وبعد هذا اليوم المتعب، توجه إلى البيت لينال قسطاً من النوم العميق. دلف إلى سريره دون أن يشعر بوجود أحد في البيت، رمى البطانية السوداء بعيداً عن سريره، هذا النوع من البطانيات - الذي وزعته وكالة الغوث في أولى سنوات النكبة- مميز بملمسه الخشن والشوكي. ندت عنه صيحة منادياً على زوجته عائشة التي كانت منهمكة بأعمال البيت وشؤون الأطفال التي لا تنتهي، طلب منها ضجراً بأن تحول هذه البطانية إلى أسمال للمطبخ وأعمال النظافة البيتية.
وضع رأسه المثقل بالتعب وأصوات البحر على الوسادة، طفقت عيناه بمحو صورة المكان الذي ينام فيه، وتغيرت رموز دماغه وإشاراته وأفكاره، مستدعياً لوحة بيضاء ليرسم عليها حلماً يبدأ خلال عمله وصيده، لكن شيئاً ما يغير توازن قاربه فيغرق رويداً رويداً، لم يشعر بأن هذا الغرق فيه شيءٌ من أهوال المصائب. غرق بطيء ينساب بسلاسة ومتعة، ويقوده إلى قعر البحر، تتقاذف من حوله أنواع لا حصر لها من الأسماك، رغم أنه ليس موسم وجودها، أسماك لا تلتهمها خيوط شبكته البائسة في عمله اليومي والمضني. لا يزال الغرق يغوص به أكثر فأكثر إلى قاع البحر، كأن قوة غير مرئية تجذبه الى هناك.
ثم رأى مدينة تبرق انوارها. يا لهذا المشهد! بهرت عيناه الانوار الآتية من تلك المدينة في قاع البحر. حتى المدن التي لا تنام لا تبرق ليلا هكذا، أي طاقة كهربائية تلك التي تضيء هذه المدينة؟ بيوت هذه المدينة مبنية بترتيب هندسي فائق، لا يوجد فيها اي بيت يحتاج إلى ترميم أو تصليح. مكتملة البناء والبهاء. حملق عبد القادر في وجوه أهل "مدينة الحلم"، أخذ نفساً عميقاً، فكلهم يملكون ملامح بشوشة، ووجوها نقية لا تعرف كرباً. مدينة الحلم هذه تستلقي في قعر البحر مرتاحة البال، وتتداخل خطوات سكانها مع تحليق الأسماك فيها، فلا شيء يسيّج محيطها، أو يغلق منافذها وحدودها، فهذه المدينة لا تعرف الجغرافيا السياسية.
فجأة، قفز عبد القادر من فراشه، كانما قفز من الحلم الى اليقظة على صوت صراخ عائشة وهي توقظه لاستدراك وقت البدء في العمل.
لا يزال في فراشه يشعر بنوع من الخدر من رؤياه الجميلة. رفع جسده قليلاً واتكأ على الحائط الذي خلفه، وتناول علبة السجائر وأشعل سيجارته، مجَّ نفساً طويلا وهو يغمض عينيه نصف إغماضة، وتمتم في نفسه ساخراً: " قال مدينة تحت البحر! خليني في غزة إللي بعرفها"، فتح عينيه أكثر، ونفث ما في فمه من دخان، فكانت غمامة زرقاء ورمادية، بدت فيها "مدينة الحلم" مرتسمة بوضوح.. ثم تبددت كما تبدد الدخان.