انعكاسات الأزمة ستظهر خلال أشهر انخفاضاً في تحويلات المغتربين

«الأزمة المالية العالمية جدية» يقول الخبير الاقتصادي شربل نحاس «ولبنان يجب ألّا يستمر في تقبل التهاني، من دون القيام بإجراءات استبقاية»... فالنهج الاقتصادي والمالي في تأجيل الأزمات المتَّبع في لبنان نموذج مصغر عن النهج الذي كان متبعاً عالمياً. الأول دخل في خندق الأزمة... فهل سيستخلص لبنان العبر؟

رشا أبو زكي

1- ما هي حقيقة الأزمة المالية، وكيف تكونت لتصل إلى مرحلة الانفجار؟

ــ من الواضح أن الأزمة جدية، وما يشير إلى ذلك هو حجم المبالغ والأرقام التي تُجَنَّد في خدمة السيطرة عليها. إذ إن الأزمة ليست طارئة، ولم تظهر فجأة لأسباب آنية، لكن تعاظم حجم الذمم المالية أو التورم المالي أدى إلى تحفيز الاستهلاك والطلب والأرباح، فكانت النتائج الأولية إيجابية، إلا أن تراكم حجم الديون المستمر منذ 15 إلى 20 عاماً على الصعيد العالمي، وخاصة في الاقتصاد الأميركي بدأ بإرسال إشارات الخطر، فوقعت الإدارة الاقتصادية والسياسية الأميركية في حيرة بين عدة خيارات يمكن تبسيطها بخيارين: إما محاولة كسب الوقت حتى لو كان من خلال زيادة حجم المشكلة. وإما مواجهة المشكلة وتحمُّل تبعات مواجهتها من خسائر وارتباك اقتصادي واجتماعي وسياسي. وقد اتُّبع الخيار الأول. إذن الأزمة ليست محصورة بلحظة ظهور العجوزات أو الإفلاسات. وقد أدارت الولايات المتحدة هذه الأزمة في مسارها التاريخي ببراعة ولفترة امتدت أكثر من عقد من الزمن، فزادت السلطات النقدية الأميركية ضخ السيولة وخفضت الفوائد بغية كسب الوقت وتأجيل مخاطر الأزمة المفتوحة. وإذا نظرنا بسرعة إلى ما نمر به في لبنان، نجد تشابهاً لافتاً، فنحن أثبتنا قدرة لافتة في إدارة الأزمة لكسب الوقت ولو بتعظيم حجم الكتل المالية.

2- لماذا لم تستطع الدول، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، الاستمرار في السيطرة على الأزمة؟

ــ أتى ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية الأساسية ليقلص الدخل الفعلي المتاح للأسر في معظم الدول، ما جعل من الصعوبة اقتطاع الكمية اللازمة من دخل المواطنين لتغطية الذمم المالية المتراكمة، وهنا أتى دور الديون العقارية لذوي الدخل المحدود أو المتدني في الولايات المتحدة الذين تأثروا إلى حد بعيد بارتفاع الأسعار، فكانت الديون العقارية المؤشر الظاهر للأزمة، في حين أن مواجهة هذا الخلل يتطلب قرارات ليست سهلة، إذ حين تظهر مشكلة ما، يتردد أصحاب القرار بين التغاضي عنها لتمديد الوقت وعدم إعلان وجود مشكلة أو خلل قد يؤثر على الاقتصاد العام، أو التدخل المباشر لحل المشكلة مع تحمّل تبعات ظهور أو توليد مشاكل أخرى. واختير الخيار الأول، مع مراهنة غالبية المتابعين حتى الأشهر القليلة الماضية، على إمكان استمرار إدارة الأزمة من خلال تأجيل الاستحقاقات لفترة طويلة، وهنا حصل الخلل ووقعت الأزمة.

3- هل صحيح أن الأزمة الكبرى على الصعيد المالي لم تبدأ بعد؟

ــ الأزمة قطعت أشواطاً، وقد حاول من يتولى هذه الشؤون حصر المشاكل عند خطوط دفاع انهارت تدريجياً، وقد وُضع خط دفاع حالياً لا يجب الاستهانة به، فالاجتماعات المتلاحقة بين الدول الكبرى للتفكير في نظام مالي جديد وتوحيد المواجهة هي إجراءات من العيار الثقيل جداً، ومهما كانت النتائج، فثمة مبالغ مهمة وضعت في خدمة إطفاء الأزمة أو حصرها، وهناك خسائر يجب توزيعها، وقد توزعت فعلياً على حاملي الأسهم في الشركات المتأزمة، في حين أن المواطنين في الدول الغنية يعيشون حتى اليوم في حالة ذعر، ويقلصون إنفاقهم خوفاً من فقدان مدخراتهم، وبالتالي لا يعلمون أنهم سيتأثرون فور انتهاء حالة الذعر من انكماش اقتصادي سببه تقلص النفقات وزيادة الضرائب. كذلك ثمة مسألة تحميل دول معينة خسائر لدول أخرى، وتبرز في هذا الإطار حركة تنسيق السياسات بين الدول الغنية الأساسية. ويبقى السؤال: أي جزء من الخسائر سيُلقى على الدول غير الجالسة على طاولة الأغنياء؟ وهل ستنحو السياسات الداخلية للدول نحو إنعاش الطروحات اليسارية، أم نحو النزعات الشوفينية اليمينية، أم ستولد مشاكل اجتماعية تؤدي إلى زيادة العسكرة؟ هذه أسئلة جدية، وسوف تظهر ملامحها بعد تخطي مرحلة الذعر
والضياع.

4- ما هي الظواهر التي سيشهدها حالياً الاقتصاد اللبناني؟

ــ الاقتصاد اللبناني شديد التداخل والتأثر بالاقتصاد العالمي، وهو يعتمد مساراً اقتصادياً يشبه إلى حد بعيد ما سبق وأشرنا إليه على المستوى الاقتصادي العالمي، ولا يمكن التنبأ بالأحداث، ولكن يوجد مؤشرات معينة يمكن البناء عليها. فلبنان يعاني عجزاً مستمراً ومتزايداً تغطيه التحويلات المالية للمغتربين من جهة، وجذب الرساميل من الدول النفطية في شراء العقارات أو شراء السندات أو في الودائع من جهة أخرى، وهذه الحالات الثلاث الأخيرة هي ذمم مالية. ويرجَّح أن تتقلص الأنشطة الاقتصادية في العالم، وأن تصاب بموجة الكساد فتتراجع فرص عمل اللبنانيين، وبالتالي تحويلاتهم. وهذا أمر سوف يظهر بسرعة وخلال أشهر عبر انخفاض التحويلات، واختلال السلسلة الاقتصادية المرتبطة بإنفاق المغتربين في لبنان.

5- ماذا عن رؤوس الأموال العربية؟

في ما يتعلق برؤوس الأموال العربية، من المرجّح أن تكون قد أصيبت بخسائر ملحوظة، وذلك بالتزامن مع تراجع مستوى دخل أصحاب رؤوس الأموال بسبب تراجع أسعار النفط، ومن الظاهر حتى الآن توجههم نحو الأسواق اللبنانية التي يرونها بمنأى عن المشاكل. وزيادة حجم رؤوس الأموال الوافدة إلى لبنان ترتب على النظام المالي اللبناني مسؤوليات كبيرة، فإن عاد ووظف هذه الأموال بالأسواق العالمية، فإن الإفادة ستنحصر بالمزيد من كسب الوقت وإطالة أمد الأزمة، أما إذا أراد لبنان تحويل الأموال إلى استثمارات تزيد في الإنتاج، فذلك يرتب اعتماد توجهات وسياسات على صعيد القطاع المالي والمصرفي ليست ظاهرة حتى الآن.

6- ما هي أهم هذه التوجهات التي يجب اعتمادها؟

ــ من المفترض أن نستخلص مما نشهده حولنا بعض العبر، ومنها أهمية تدعيم، ليس فقط شبكات الحماية الاجتماعية، بل المالية أيضاً عبر النظر بجدية إلى مؤسسة ضمان الودائع ورفع مستوى تغطيتها من المستوى الزهيد القائم، وسعي لجنة الرقابة على المصارف لتكوين المؤونات الاحتياطية وتعزيز الإجراءات الاستباقية في حال حصول أي أزمة، إذ لا يجب أن نكتفي بالتهاني والقول إن «لبنان زمط»، فهذا الوضع المريح ظرفياً يجب أن يكون حافزاً للقيام بإجراءات استباقية.

7- كم سيُسهم هجوم الودائع على لبنان في زيادة الكتلة النقدية وتسريع عملية الانهيار؟

ــ لا يوجد انهيار، بل استسهال في عملية إدارة كسب الوقت، ولكن ماذا فعل لبنان في مرحلة إدارة التأجيل، وماذا سنفعل في الوقت الإضافي الذي جاء بسهولة من خلال الأزمة العالمية القائمة؟ إذ إن لبنان لم يستطع مراكمة استثمارات يستطيع التعويل عليها لاحقاً، في حين أن الولايات المتحدة خلال مرحلة كسب الوقت قامت بخروق مهمة في مجال التكنولوجيا والمعلوماتية، ونشرت جيشها في عدد كبير من الدول، ووصلت نفسها بأنابيب النفط من كل الجهات... وبالتالي حققت أشياء يمكن أن توفر «عدة الشغل» لمحاولة التخفيف من وطأة الأزمة الحالية.


ثلاث ظواهر

رافق ظهور الأزمة، حدة في الانعطاف الأيديولوجي حول الكلام عن قدرة الأسواق على التوازن التلقائي إلى كلام على أهمية أنظمة الرقابة. كذلك أحدثت الإجراءات التي بادرت إليها الدول بلبلة ملحوظة، ليس فقط لدى الرأي العام، بل بين الطبقة السياسية. فيما عاد الكلام على النظام الرأسمالي وإمكان أفوله