عبد الحليم فضل الله طوت الرأسمالية حتى الآن قرناً كاملاً من الأزمات، من بينها ست أزمات كبرى، ويظهر السجل التاريخي لمؤشر «داو جونز» في مئة عام، أنّ الأزمة الحالية هي من أطولها مدة وأكثرها فداحة، فخلال ستة أشهر فقد هذا المؤشر حوالى 35% من قيمته، وذلك على نحو مماثل لما حدث خلال عامين كاملين على أثر صدمة النفط الأولى، لكن المسار الراهن يذكرنا أكثر بوقائع ثلاثينيات القرن الفائت، حين خسرت بورصة نيويورك دفعة واحدة أكثر من ثلث قيمتها لتستهلّ بعد ذلك هبوطاً تدريجياً استمر ثلاث سنوات وقضى على 85% من قيم الأصول المتداولة. ولئن كانت تلك الأزمات محرضاً قوياً على التغيير، الذي انعكس على طريقة تقسيم النفوذ داخل العالم الرأسمالي، وانتهى غالباً إلى زحزحة الفكر الاقتصادي عن مسلّماته الموروثة، فهل بوسع الرأسمالية أن تعيد الكرة فتجدّد نفسها وتنتج نسخة بديلة أقل تطرفاً؟
لن يكون سهلاً هذه المرة العثور على المخارج، في ظلّ انتقال المبادرة من الدول إلى الشركات العابرة، وصعوبة التراجع عن المبادئ النيوليبرالية التي ما زالت تمثّل الدليل النظري للحكومات والمؤسسات الدولية منذ ربع قرن. أمّا الدول والمجموعات الأخرى فإنها لا تتمتع بالنضج الكافي الذي يخوّلها ملء الفراغ، سواء من الناحية العملية حيث لم تستكمل الصين والأسواق الناشئة نموذجها بعد، أو من الناحية الأيديولوجية حيث العالم الإسلامي الذي يعاني مشاكل عدة ومرشح أكثر من غيره لهذه المهمة. ومع أن تجربة البنوك اللاربوية تمثل تجسيداً مؤسساتياً جيداً للربط بين الاقتصادين المالي والحقيقي، فإن الاقتصاد الإسلامي لن يتمكن من انتزاع مقعد متقدم له خارج تطبيقات ناجحة ورائدة تمارسها دولة أو أكثر.
إنّ البحث عن قاعدة جبل الجليد الذي يهدد بإغراق «تايتانك» الاقتصاد العالمي، هو الأفضل لتلافي الارتطام مجدداً. وعلى أهمية الشروح التقنية، فإنها تشجع على تبني تعديلات موضعية، من قبيل تعزيز السلطات النقدية وإعادة النظر ببعض الممارسات الخطرة في أسواق رأس المال، لكنها لا تكفي وحدها لتحديد الاتجاه الصحيح.
وإذا كان من سبب عام يلخص كل تلك الأسباب الغائرة وراء الأزمة، فإنه يتمثل في عبارة واحدة: اختلال التوازن الذي قادت إليه الليبرالية المحدثة خلال ربع قرن من هيمنتها على صانعي القرار.
المظهر الأول لذلك الخلل، هو فقدان التوازن بين الحكومات والأسواق، فسياسة كف اليد التي أطلقتها الريغانية عام 1980 لم تقف عند حد تخليص الدولة من حمولاتها الزائدة كما يزعم، بل أفقدتها دورين أساسيين من أدوارها، دور الضامن الأخير لعمليات الاستثمار والإنتاج عند اضطراب البيئة الاقتصادية الكليّة، ودور الموجّه لحركة الرساميل والمراقب لأداء الأسواق. إنّ نهاية هذين الدورين زادت من حدة الانفصام بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي، فبات هذا الأخير يمتلك قوة دفع خاصة به، لا تمت بصلة بتمويل عمليات إنتاج السلع والخدمات كما هو مفترض، إلى حد باتت معه تحركات الرساميل في العالم تساوي أكثر من مئة ضعف القيمة الإجمالية لحركة التجارة الدولية والاستثمارات المباشرة، والتي لا تتجاوز 13 تريليون دولار سنوياً.
المظهر الثاني هو عدم التوازن بين تركز الثروة في دول الشمال وتركز الإنتاج في دول الجنوب. فبحثاً عن عمالة رخيصة ومدربة في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ النظام الرأسمالي يعيد نشر الصناعات التقليدية جنوباً، وقد وضع هذا الأمر الرساميل الوطنية في البلدان الصناعية أمام خيارين: الهجرة أو البحث عن مجالات استثمار بديلة، ومع التطور الهائل في تقنيات المعلومات والاتصالات، تحوّل جزء لا يستهان به من الرساميل العاملة ومدخرات الأسر والقروض الفردية نحو المضاربة في البورصات والأسواق المالية.
المظهر الثالث، هو عدم التوازن في توزيع المداخيل والثروات في الدول الصناعية نفسها، وهو ما يمكن اعتباره الجذر الاجتماعي لأزمة الأسواق المالية. ففي الفترة 1917ـــ1939 تراوحت نسبة المداخيل المخصصة للـ10% الأغنى في الولايات المتحدة الأميركية، ما بين 40% و50% من مجمل الدخل الوطني الأميركي، وطوال الفترة التالية 1945ـــ1981التي تميزت بهيمنة الفكر الكينزي، انخفضت هذه النسبة إلى 35%، لتعود إلى الارتفاع مجدداً إلى 50% في الفترة التالية. ويرصد الاقتصادي الفرنسي المعروف ميشال ايسون في السياق نفسه تراجعاً في حصة الأجور من 63% إلى 53% من الناتج الإجمالي الأميركي ما بين عامي 1975 و2005. كان لهذا التفاوت آثار اجتماعية واقتصادية متسلسلة، فقد أدت تصرفات الفئات الأغنى إلى خفض الميل المتوسط للادخار من حوالى 12% عام 1982 إلى 0.2% فقط عام 2007 قياساً إلى الدخل المتاح للأسر الأميركية، وزيادة الميل للاستهلاك من 88% إلى 99.8% في الفترة نفسها. هذا يعني أن تمويل النمط الاستهلاكي المفرط للـ20% الأكثر ثراءً في الولايات المتحدة الأميركية، بات يتطلب تحويلاً هائلاً للثروات نحوها، ووسائل غير عادية للحصول على التمويل الخارجي بأية طريقة، وبالنتيجة كان لا بد من خلق تلك الكائنات المالية الخطيرة، وغض النظر عن تراكم العجز في الحساب الخارجي والميزانية الفدرالية.
تكمن مشكلة الرأسمالية المالية هنا تحديداً، أي في تنكرها لكل أنواع التوازنات ولا سيما منها التوازنات الاجتماعية، واعتقادها بأن الفئات الأعلى في سلّم الدخل قادرة على خلق طلب كاف ومتنوع، وقيادة قاطرة النمو بمفردها. وهذا غير صحيح، ففي الوقت الذي تحتكر فيه هذه الفئات الجزء الأكبر من المداخيل، فإنها تشوّه عمليات تخصيص الموارد، وتذهب بالاقتصاد العالمي بعيداً عن هدفي الاستقرار والازدهار.