غضب الشارع السوري إزاء اعتداء يوم الأحد الماضي تُرجم أمس في تظاهرة حاشدة، قدّرت وكالات الأنباء عدد المشاركين فيها بعشرات الآلاف، ترددت على شفاههم شعارات عدائية غير مسبوقة ضدّ إدارة جورج بوش
دمشق ـ سعاد مكرم
حين طرح الأستاذ في إحدى الجامعات السورية الخاصة على طلابه موضوع الغارة الأميركية للمناقشة، توخّى ألا يقدم تحليلاته الخاصة أو رأيه بما جرى. طرح القضية الساخنة بدم بارد، في محاولة منه لحثّ طلاب العلوم الدبلوماسية على تفكير عقلاني هادئ، ولوضع الاحتمالات التي دفعت بالولايات المتحدة إلى الاعتداء على عمال بناء مدنيين في مزرعة السكري.
قال الأستاذ إن الضربة جاءت في الوقت الذي بدأت فيه دمشق بإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان، وفي الوقت الذي اعتمدت فيه سفيراً لدى بغداد، وفي الوقت الذي تخوض فيه مفاوضات سلام غير مباشرة مع إسرائيل، وتنسق مع الحكومة العراقية لضبط الحدود، أي إنها تعمل ما في وسعها للتهدئة ولنزع ذرائع الضغط عليها. فلماذا إذاً تُوجَّه مثل هذه الضربة من خارج السياق لسوريا؟
النقاش العقلاني الذي حاول الطلاب خوضه بهدوء، لم يخفِ مشاعر الحقد والكراهية تجاه الرئيس جورج بوش وإدارته. أحد الطلاب رأى أنها «ضربة الرمق الأخير» للإدارة الحالية في واشنطن، فيما قال آخر إنّها محاولة فاشلة لإثبات أن الإرهابيين يأتون من الخارج، لا من داخل العراق فقط، «وعليه، يجب أن يوقِّعوا الاتفاقية الأمنية» الجاري التفاوض عليها بين واشنطن وبغداد.
رأي ثالث ربط الجريمة بالانتخابات الأميركية ومحاولة بوش توريث خليفته مشكلة مع نظام الرئيس بشار الأسد، كي لا يتراجع الرئيس المقبل عمّا بدأته إدارة بوش في المنطقة.
وبعد انتهاء الدرس، خرج الطلاب من القاعة تملأهم مشاعر الغضب والانفعال ليتابعوا كلامهم في الخارج عن ضرورة «رد الصاع صاعين» لأميركا «الهمجية» و«المتوحشة» و«راعية البقر»... فلا بد من رد «يشفي الغليل» بما أن إغلاق المركز الثقافي والمدرسة الأميركيين لا يكفي، فلا بد من ردّ حقيقي!
تذبذبات الغضب العارم في الشارع السوري وصلت إلى السفارة الأميركية في دمشق، التي وجهت يوم الاثنين الماضي رسالة إلى رعاياها وموظفيها، فحواها ضرورة توخي الحذر «تحسباً من تنامي المخاوف من ردود فعل عنيفة».
وفي ساعة متأخرة من مساء الأربعاء، أصدرت السفارة بياناً مقتضباً يؤكد إغلاق أبوابها يوم أمس، وذلك لأسباب تتعلق «بمخاوف أمنية».
وبحسب مصادر مطلعة، فإن القائمة بالأعمال الأميركية، ماورا كونيللي، طلبت من السلطات السورية تعزيز حماية المباني التابعة لمصالح بلادها في دمشق، وهو ما استجابت إليه الجهات المعنية السورية عبر التشدد في إجراءاتها الأمنية في محيط السفارة والمركز الثقافي وعلى نحو «جيد جداً»، حسبما وصفته مصادر مطلعة مقرّبة من السفارة الأميركية، في إشارة إلى الطوق الأمني الكبير الذي ضُرب حولها. والطلب الأمني الأميركي خرج إلى العلن لدى إعلان النية لتنظيم تظاهرات للتنديد بالاعتداء، على أن تعود السفارة لفتح أبوابها يوم الأحد المقبل بما أن يومي الجمعة والسبت هما يوما عطلة رسمية في سوريا.
التظاهرات الشعبية الحاشدة التي خرجت أمس في دمشق، تجمعت في ساحة الشهداء وسط العاصمة، ولم تصل إلى المناطق المحيطة بالسفارة الأميركية.
وقد شارك في التظاهرة المركزية التي دامت ساعتين، والتي أشارت وكالة «أسوشييتد برس» إلى أن «الحكومة السورية نظّمتها»، عشرات الآلاف من المواطنين من مختلف الفعاليات الشعبية والنقابية والدينية والطلابية والنسائية والجمعيات الأهلية وحملوا لافتات كتب عليها «ديموقراطية بوش تظهر في البوكمال» و«قتل الأبرياء سياسة رعاة القبر» و«إسرائيل وأميركا وجهان لإرهاب واحد» و«أميركا المجرمة عدوة العروبة والإسلام».
وتصاعدت حدة العداء للسياسة الأميركية وللرئيس بوش في الشارع السوري على نحو غير مسبوق، وطالب المتظاهرون المجتمع الدولي بالعمل على وضع حدّ «للعربدة الأميركية» ودعوا «القوى الحية والفاعلة والمنظمات الدولية لإدانة هذا العدوان الإرهابي واتخاذ الإجراءات المطلوبة لمحاسبة المعتدين الذين يضربون بالمواثيق والقوانين وجميع الأعراف الدولية عُرضَ الحائط».
وقال أحد المشاركين، وهو يمتلئ غضباً: «هذه أميركا، وهذه سياستها، ونحن نعرف أنها مجرمة، لكن المسؤوليين العراقيين يفاجئوننا بتصريحاتهم التي تقطر شماتة وسمّاً»، فيما تساءل آخر عما إذا كان العالم «يصدّق فعلاً الأكاذيب الأميركية»، وأضاف متوعداً أنه مستعد للردّ ومستعد لبذل روحه في سبيل ذلك.
كذلك نُظِّم اعتصام سلمي مساءً أمام تمثال صلاح الدين الملاصق لقلعة دمشق الأثرية تنديداً بالهجوم الأميركي.
في تلك الأثناء، نظمت السلطات السورية جولة إطلاعية للسفراء والملحقين العسكريين المعتمدين في دمشق على قرية السكرية التي استُهدفَت. وكشفت مصادر رسمية عن أن الهدف من الجولة إطلاع الدول وممثليها على نتائج الغارة وعلى الواقع مباشرة.


فنزويلا والجزائر و«الإخوان» يندّدون

واصلت عواصم وأطراف عربية وغربية أمس التعبير عن تنديدها بالاعتداء الأميركي على سوريا. وكان أبرز المتضامنين فنزويلا والجزائر وجماعة «الإخوان المسلمين» المصرية.
في هذا الوقت، جدّد وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري موقف بلاده الرافض للجريمة الأميركية. وكشف بيان عنه أنه «أجرى اتصالاً هاتفياً مع نظيره السوري وليد المعلم عبّر فيه عن موقف الحكومة العراقية الرافض».
وأضاف البيان أن زيباري أكد للمعلم «الحاجة إلى مزيد من التعاون والتنسيق الأمني بين البلدين الشقيقين لضبط الحدود ومنع عمليات التسلل عبرها».
وفي السياق، رأت الجزائر أن الهجوم الأميركي هو «انتهاك صارخ» لسيادة سوريا. وأعربت وزارة الخارجية الجزائرية، في بيان، عن «قلقها الشديد» لهذا الهجوم، وقالت إنّها «تابعت بقلق شديد الهجوم العسكري الذي شنته وحدات جوية أميركية على قرية سورية، مؤدياً إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى».
كذلك استنكرت جماعة «الإخوان المسلمين» المصرية الغارة والإنزال الأميركيين، واصفة إياهما بأنهما «اعتداء همجيّ». ورأت الجماعة أنّ «هذا الاعتداء امتداد للمشروع الصهيو ــ أميركي الرامي إلى إضعاف دول الجوار للكيان الصهيوني وإحداث حالة من الفوضى، من طريق إشاعة الذعر في المنطقة بين الحين والآخر».
أما وزارة الخارجية الفنزويلية، فطالبت «المجتمع الدولي» بالعمل على حث «الولايات المتحدة على التوقف فوراً عن أفعالها» واقترحت تقديم «الدعم» لسوريا.
ورأت كاراكاس أنّ تصرف القوات الأميركية «يمثّل استخفافاً بمبادئ التعايش السلمي واحترام سيادة الدول ووحدتها».
(أ ف ب، يو بي آي، رويترز)