عبد الحليم فضل اللهاستُدعيت «طرابلس» على عجل إلى السرايا الكبيرة كي يتاح لرئيس الحكومة تفحّص أوجاعها عن قرب، وهذا دليل آخر على أن السياسة التي تهدد مركب التنمية تعود فتلجأ إليه لترمّم شرعيتها، وتعبر بأمان من ضفة خطرة إلى أخرى أقل خطراً. والتنمية التي لا تأتي في لبنان إلا في ظروف استثنائية وعلى شكل حزمة من المشاريع المتفرقة، تعتمد نموذجاً تفوق تكاليفه الآمال المعقودة عليه، فهو يزيد الخلل في وضع الأولويات وتوزيع المكاسب، ويرجح كفة التجزئة على التوحد، ويخلف آثاراً سيئة على التماسك الوطني والاستقرار العام. ولأن مسائل التنمية والإنصاف الاجتماعي على قدر كبير من الأهمية، والإجماع عليها لا تشوبه شائبة، باتت جزءاً لا يتجزأ من العتاد اللغوي في الصراعات السياسية، والمفارقة أن الفريق القابض على دفة السياسة الاقتصادية يمارس بمهارة لعبة «الترميز المعاكس»، فيصادر شعارات خصومه ويعيد صوغها على هواه، إلى حد صار صعباً معه التمييز بين رؤية الحكومة ورؤية المعارضين لها.
على أن الصلة بين الاقتصاد والسياسة في لبنان، أو بالأحرى بين التنمية والنزاعات السياسية، هي ذات جدلية خاصة، تعبّر عنها التأويلات المختلفة التي خضع لها مبدأ الإنماء المتوازن الوارد في وثيقة الطائف، وهي تأويلات متعددة بتعدد ألوان الطيف اللبناني وتنوّع راياته، فلئن كان هذا المبدأ يعني لعامة اللبنانيين دعوة شاملة لتحقيق التقدم والوفرة والحد من التفاوت والإقصاء، فإنه لدى غالبية محترفي السياسة، فناءٌ خلفي تدور فيه المقايضات والمساومات على كل شيء وحول كل شيء، وفيما يصمّ الآذان الجدل الصاخب بشأن نصيب هذه الفئة وتلك المنطقة وتلك الطائفة، تنصرف أقلية نافذة خلسة إلى تقرير مصير البلد وصناعة مستقبله القريب والبعيد، هكذا دون رقابة أو مشاركة.
والعلاقة بين السياسة والتنمية هي تقريباً ذات اتجاه واحد، فالأولى تنتهك فضاء الثانية ساعة تشاء لتقتنص منه ما يصلح للمواسم الانتخابية والاستحقاقات الحرجة، ولا يقابل هذا القدر السياسي للتنمية قدر تنموي للسياسة، فحتى الآن لم يتمكن خطاب التنمية والإصلاح من ترك آثار واضحة على السياسات العامة للدولة ومسارات تطورها. العهد الشهابي هو خير مثال على هذه التبعية غير المتبادلة، فبالرغم من إيقاعه السريع وإنجازاته المشهودة، وانتقاله في فترة قصيرة من سياسة الموازنة الفائضة (بلغ هذا الفائض حوالى 25% خلال خمسينيات القرن الماضي) التي تحرم المواطنين جزءاً من دخلهم القومي لحساب الخزينة، إلى سياسة التمويل بالعجز لمشاريع وبرامج هدفت إلى تعميم الخدمات العامة، بالرغم من ذلك طويت صفحة ذلك العهد فور اصطدامه بالقوى التقليدية المصممة على استعادة نفوذ لا يخضع للمساءلة، ولم تتحول الشهابية إلى تيار ثابت في المجتمع السياسي اللبناني، مع أنها تستحق ذلك بمعزل عما ارتكبته من أخطاء واعتراها من ثغرات ورافقها من سوء تقدير. إذا كانت معالجة بطء النمو وتراجع التنمية هو من شروط الاستقرار، فهل من الممكن استطراداً الاعتماد على ديناميات الإصلاح والتحديث التنموي للانتقال نحو وضع سياسي أفضل، لا يواجه أفقاً مسدوداً، وغير مصاب بعمى الألوان؟ ولئن عجز اللبنانيون عن التوحد تجاه قضايا مصيرهم، فهل بوسعهم الاجتماع حول فهم موحّد وشامل للتنمية ومتطلبات الاستقرار والتقدم الاقتصادي والعيش الرغيد؟
للأسف، إن العناصر التي تمنع استقرار الحياة السياسية هي نفسها التي تمنع اتفاق اللبنانيين بسائر فئاتهم وقواهم الحيّة على هذا الفهم الموحّد. فلو عدنا إلى الموجة الجديدة للخطاب التنموي (وقد جاء اليوم الطرابلسي في سياقه)، التي ترى التنمية طريقاً لجلب الاستقرار (كيف؟)، وامتصاص نقمة مجتمعات الأطراف، وعرقلة صعود السلفيات، فسنراها قاصرة عن التعامل مع المحددات الحقيقية للتنمية، شأنها في ذلك شأن موجات الخطاب التنموي السابقة، التي ربطت بين التنمية والإصلاح السياسي تارة، والحد من خطر الحروب طوراً، وبناء الدولة القوية ثالثاً، ومواجهة الاحتلال رابعاً... ومع أن هذا الربط صحيح وفي محله، فقد أخفق خطاب التنمية (لو حملناه على محمل الجد) في زرع مفرداته داخل النظام، لا لوجود تقاعس متعمد وانحرافات مقصودة في تنفيذ خطط إعادة الإعمار، وبرامج مواجهة آثار العدوان، وإنماء المناطق الفقيرة فحسب... بل لأن مسارات التطبيق قامت على أساس الفرضيات السياسية العقيمة التي أدت إلى ما أدت إليه من خسائر، وجرّت ما جرّته من ويلات وطنية في تسعينيات القرن الفائت... وما بعدها.
تستحق محافظة الشمال لفتة تنموية خاصة، فهي خزان هائل للفقر البشري يضم 46% تقريباً من المصنفين في خانة الفقر المدقع في لبنان، و38% من الواقعين تحت خط الفقر المطلق، من بينهم 17.8% و13% على التوالي في عاصمة الشمال نفسها، وتحتل أقضية الشمال مع قضاءي بعلبك ـــ الهرمل وبعض أقضية الجنوب أدنى المراتب في جدول إشباع الحاجات الأساسية، ونسب البطالة فيها هي الأعلى وطنياً. لكن اللفتة الإنمائية المرجوّة لا تعني غمس السياسة بقليل من نبيذ التنمية، أو اتخاذ رزم المشاريع والخدمات غطاءً لمد شبكات جديدة لاقتصاد الريع الذي يساعد على بسط النفوذ أكثر مما يفيد في تخفيف الفقر.
هناك حاجة ملحّة لتجديد خطاب التنمية، لكن بشروط، منها أن يتم ذلك خارج بيئة الانقسام والتنابذ، وفي إطار خطط طموحة تتعاطى مع التنمية كعملية موحّدة على مستوى الوطن، وفي ظل سياسات اقتصادية ومالية ونقدية بديلة، لأن السياسات القائمة مسؤولة عن التدهور الراهن، مع ما يقتضيه ذلك من نظرة مختلفة لدور الدولة وفهم جديد لطبيعة وجودها.
هكذا يصبح مصير المناطق المهملة الاندماج في الوطن لا الوقوع في فخ السياسة.