وائل عبد الفتاح
رجال الأعمال هم أطفال السلطة المدللون. منحتهم إشارات خضراء لصيد ثروات سهلة. دفعتهم إلى حافة الجنون في الجرائم. وبعدما ارتدوا ملابس السجن البيضاء في تجاوزات مالية، ارتبط الأبيض الآن بلون الدم خلف أسوار حكايات بنتها الثروات السهلة

صدمة المليارات السهلةإنه من نادي النخبة الذين تحيطهم أسوار عالية ولافتة «ممنوع الاقتراب والتصوير». هو واحد من المميزين في قائمة «UNTOUCHABLE». تصوّر مصطفى أن القضية انتهت بالتحقيق معه بعد رفع الحصانة ليلة حريق مبنى الشورى. كان مندهشاً طيلة التحقيق، ويردد فقط أنه مستهدف وأن الاتهام هو جزء من الحرب عليه. لم يقل ممن؟ ولا لماذا؟
الصدمة لا تزال تسيطر عليه. والحكايات الواردة من السجن تقول إنه صامت لا يتكلم. معزول في زنزانته يرفض طقوس الاستقبال المعروفة في عنبر المتهمين الخاصين. لم يتخيل هشام أبداً أنه سينضم إلى العنبر نفسه، فهو ملك الإسكندرية. صوره ولافتاته في كل مكان. وكأنه الحاكم الفعلي للإسكندرية، يذكر بقصة رشاد عثمان، مليونير الثمانينيات الشهير الذي قفزت ثروته فجأة من مالك مخازن أخشاب إلى مالك المدينة، حتى أن الرئيس أنور السادات أوصاه في عبارة شهيرة «خلي بالك من الإسكندرية يا رشاد».
رشاد انتهى في السجن متهماً بالفساد، وها هو هشام طلعت مصطفى وريثه يذهب إلى السجن متهماً بالتحريض على قتل الفنانة سوزان تميم.
نماذج غريبة ترتبط بالعاصمة الثانية وعالم المقاولات والاقتراب من عائلات الحكم. وتشابه النهاية غريب أيضاً. لكن طبعاً قصة هشام مختلفة وتشبه عصرها.
هشام هو ابن مقاول عصامي بدأ إمبراطوريته في الكويت. وكان هو الابن الأصغر لكنه الأكثر مهارة في التفكير المالي. اختار له الأب دراسة المحاسبة، ضد رغبته في أن يكون مهندساً مثل شقيقيه، وبالفعل أصبح هو المنقذ للمجموعة من الإفلاس بعد ديون وصلت إلى 900 مليون جنيه. وصعد هو إلى رأس إمبراطورية (تضم 21 شركة وله شركاء من أمراء الخليج) بعدما عرف خلطة العصر، وأدرك قانون التزاوج بين السلطة والمال. شق هشام الطرق السرية ليصبح واحداً من أعمدة الحكم المالية والسياسية.
المليارات هي بطلة القصة لا هشام. لا طعم ولا أهمية للقصة إذا لم يكن بطلها واحداً من صائدي الثروات. سيدخل هشام التاريخ، ليس كواحد من بناة المدن الجديدة، كما كان يخطط، لكن كبطل قصة الملياردير والمغنية. عاشق ولهان يمتلك ثروات لا حدود لها استأجر قاتلاً لينتقم من مغنية تركته.
صائد ثروة وصائدة رجال. الحكاية إلى هنا تقليدية إلى حد ما. لكن حكاية الملياردير والمغنية لها أبعاد أخرى كبيرة، أبسطها عضوية هشام في لجنة السياسات ومجلس الشورى (ولا بد من دراسة كيف تحولت هذه الهيئات السياسية إلى مصانع لتخريج أبطال الجريمة السياسية والاقتصادية والآن الجنائية).
إنها تحالفات قوية مع السلطة. افتتح الرئيس حسني مبارك بنفسه فندقه في الإسكندرية. كما نشرت الصحف حكاية عن لقاء بين الرئيس والمقاول، سأله خلاله مبارك: «إذا جعلتك وزيراً، هل ستحول مصر إلى الرحاب (اسم المدينة السكنية التي بناها هشام)، ابتسم هشام وقال له: طبعاً يا فندم».
وكانت هذه المحاورة علامة على طموح سياسي مدفون وراء حركة هشام بين عوالم السياسة والمال. العلامة جعلته طبعاً طرفاً في حرب الأجنحة داخل شلة الحكم. وعزز من التفسير بأن القضية هي واحدة من جولات هذه الحرب بين ديناصورات النظام في مصر. وانتشرت أسئلة من نوع: من أقنع هشام بالعودة من سويسرا بعد ظهور اسمه في تحقيقات الجريمة؟ هل كانت عودته فخاً؟ وهل شاركت أجهزة إعلام في رسم الفخ؟ وهل استخدم هشام الصحافة أم استخدمها خصومه؟ هل تورط هشام في العلاقة مع سوزان؟ أم العلاقة بينهما كانت جزءاً من علاقة أكبر وفي مجالات أوسع خاصة بنشاطات غير معلنة؟ أسئلة ترافقها علامات مهمة في تفسير ما حدث، أولاها أن هشام سيحاكم سجيناً، وهي إشارة إلى توجه النائب العام أو ميله إلى إدانة كاملة. وهذا يعني أن النظام ترك النائب العام يؤدي دوره المهني.
هذه هي الرسالة التي ربما سيراها البعض حرب تصفية بين ديناصورات السلطة والثروة في مصر. لكنها غالباً حسبة تتعلق بالخفة والثقل، كلما كان الديناصور خفيفاً استطاع النظام حمله وعندما يثقل سيلقيه عن ظهره.
صادف هشام طلعت مصطفى سوء حظ كبير عندما وقعت جريمة القتل في وقت يبحث فيه النظام عن ضحية ثمينة يقدمها للرأي العام ليطفئ بها نار الغضب المحبوسة في صدور الناس، وليرسل إلى الحلفاء من رجال الأعمال أن التحالف لا يعني الشراكة الكاملة في الحكم، وأن الفواتير لا بد من أن تدفع الآن من أجل إنقاذ النظام.
الرسالة وصلت بقوة إلى رجال الأعمال، الذين على ما يبدو يعيشون مرحلة من مراحل الخوف الكبير، رغم أن هناك رسالة اطمئنان سرية وصلتهم بأن البراءة في انتظار ملياردير المغنية، لتكرر ما حدث مع ملياردير العبّارة.
لكن صدمة هشام طلعت مربكة، وكسرت حائط الأمان الذي جعله يتصرف بإهمال شديد ويختار قاتلاً بلا كفاءة، يرتكب أخطاء لا يرتكبها لص مبتدئ، وينفذ الجريمة ببدائية منقطعة النظير.
الجريمة كلها بدائية. بداية من التحريض على القتل (الانتقام من أجل ذكورة مهدورة أو خوفاً من الفضيحة وكشف أسرار صفقات غامضة) إلى اختيار ضابط أمن دولة سابق، وهو تصور في لاوعي الملياردير المحرض بأنه لا فرق بين حماية الدولة وحماية أصحاب الثروات (كيف تحوّل الضابط من نفسية الحماية السياسية إلى نفسية القاتل المأجور). وكيف ارتكب حماقات قادته إلى السجن ولم يكن معه سوى دليل واحد: تسجيلات هاتفية لمكالمات بينه وبين هشام، كما لم يجد مكاناً يخفي فيه ثمن القتل إلا فرن الغاز.
علامات على ركاكة وبدائية تكشف سر جريمة أكبر من قتل سوزان تميم. جريمة الانفلات المجنون والتطرف في كل شيء. في السلطة والثروة والقتل. تطرف بلا عقل ولا موهبة. تطرف تافه يقتل بلا مهارة كما يملك ويحكم بلا مهارة.

نادي الثروات القاتلة


«مصر بلد فقيرة يحكمها أغنياء»، جملة انتهى بها الحوار عما تفعله المليارات في البلد. من أين تأتي كل هذه الثروات في بلد ينام فيه الناس بنصف عشاء؟
الأموال الكبيرة تحرك الأحداث في مصر، من شراء اللاعبين (متوسط سعر اللاعب ارتفع إلى 10 ملايين جنيه) إلى الدفاع عن قاتل العبارة (تكلفة جيش المحامين عن ممدوح إسماعيل اقتربت من 50 مليون جنيه)، وصولاً إلى قصة الملياردير والمغنية (أجرة فرقة القتلة حسب التقارير الصحافية مليونا دولار).
خلف كل حدث يشغل الناس في مصر ملايين ومليارات. تتكلم وتفعل والآن تقتل، حتى أصبح المال يدير الدولة، وليست الدولة هي التي تدير الأموال. لماذا تتضخم ثروات الشخصيات السياسية الكبيرة بمجرد عبورهم الخط الأحمر للسياسة؟ الخط الأحمر هو الاقتراب من الشلة المحيطة بقصور الحكم. وهناك خط أحمر في التجارة أيضاً، على كل من يقترب منه دفع نسبة معروفة لشبكة سرية لا يعرفها.
الخطوط الحمراء في السياسة والاقتصاد تلتقي غالباً وترسم خريطة مستقبل مصر. هناك وجه شبه بين أصحاب الثروات السهلة وأغنياء الحضارة الرومانية في اختراع فنون الترف والبذخ إلى آخر مدى. سادة روما كانوا سبب سقوط الحضارة الكبيرة، فماذا سيفعل سادة الثروات المترفة في مصر؟ بالطبع هناك وجه اختلاف كبير، أن أغنياء روما شاركوا بشكل ما في بناء حضارة عظيمة، لكن أصحاب الثروات المترفة يلعبون في مصير بلد كلما ظهرت علامات نهوضه.
«هل الشائعات عن ملياردير واحد يمكنها أن تسقط البورصة؟»، سؤال من سائق تاكسي شعر بالدوخة من القصص التي يقرأها في الصحف ويسمعها من ركاب الليل. كيف تحوّل محاسب يدير شركة عائلية تشبه 20 ألف شركة إلى ملياردير، حجم الأموال التي تديرها مجموعته يفوق 7 مليارات جنيه في أقل من 10 سنوات؟
المال متطرف الآن في مصر؛ قاتل ومصاص دماء ونتاج طبيعي لتطرف السلطة. تطرفها يقود الغرائز إلى الحافة دائماً، المال لا يبني في مصر لكنه يصنع حالة وجود هستيري لأصحابه. يبحثون فيه عن الامتلاك والاحتكار، يبحثون عن جمال متطرف يقود إلى الجنس القاتل لا إلى المشاعر والعواطف.
باشوات اللحظة الراهنة يملكون ثروات متوحشة وعقولاً فارغة وأرواحاً معتمة. يشبهون أغنياء الحرب الذين كانوا مسخرة الصحافة في مصر بعد الحرب العالمية الثانية. جمعوا ثروات من التجارة في مخلفات الحروب. ثروات لم تترافق مع نقلات لا في الوعي ولا الثقافة ولا الذوق.
باشوات هذا الزمان هم نتاج حروب النظام على الشعب المصري. قرار الحرب على الداخل كان باب السعد والثروة لجيل جديد من الأغنياء، كوّنوا ثرواتهم من التجارة في موت البلد والناس وكل الأحلام الكبيرة بدولة قوية.

النظام يأكل أولادهتأييده معلن للنظام ويتخذ أحياناً شكلاً طريفاً وهو طباعة صورة الرئيس حسني مبارك على سجاد من إنتاج مصانعه، ولا يسمح بالشراء أو الاقتناء إلا بعد موافقة أجهزة سيادية.
خميس ليس هشام طلعت مصطفى، لكنه في المزاج العام واحد من الديناصورات. ربما كان ذا أصول ناصرية جعلته يدعم صحف تناوش على هوامش يسارية خفيفة، لكن هذا لم يمنع ضربه الأرقام القياسية في حفل زفاف ابنته الذي كلف ثلاثة ملايين دولار.
وظل الزفاف حديث المجتمعات، إلى أن تجاوزه زفاف أكثر أسطورية كلف 30 مليون دولار، وفيه غُطِّي شاطئ كامل بالخشب الفاخر. أصحاب الزفاف عائلة ليبية هاجرت إلى مصر بعد الثورة ودخلت تاريخ الحفلات القياسية بصدمة دفعت خميس إلى الصف الثاني.
المنافسة في البذخ الأسطوري دفعت شاباً من منطقة شعبية في بداية حياته للسؤال: «لماذا لا يبني هؤلاء مستشفيات أو مدارس بدلاً من الصرف المجنون على الحفلات والمومسات؟».
الشاب كان يتأمل تفاصيل قضية الملياردير والمغنية، غير مصدق أنها حدثت في مصر. لكنها حكايات تنافس أساطير ألف ليلة وليلة، تفوق الوعي العادي، وتخلق قاعدة منطقية لتصديق حكايات فوق الخيال.
جنون الاتهام هو الرد المنطقي على جنون البذخ، وهو المبرر الذي يحرك جناحاً في السلطة لإدارة حرب غير معلنة على مليارديرات ألف ليلة وليلة المصرية. الحرب لإنقاذ النظام. بدأت تقريباً من 6 نيسان، حين أدرك الجناح القديم أن الخطر على النظام من داخله والانفجار سيأتي من قلبه، وعليه التخلص من حمولاته الثقيلة وهز الكيانات التي أدخلها النظام مضطراً بعد انتهاء مرحلة الثورة وتأميم الثروات والسلطة معاً.
النظام بحث عن شركاء مأمونين لمرحلة الخصخصة والانفتاح والاقتصاد المفتوح، هم أبناء نظام مبارك وقصصهم هي الحكاية الحقيقية لما حدث خلال ٢٧ سنة. هم اللاعبون الأساسيون. يعيشون في خير النظام وينقذونه من ورطات سياسية. كونوا ثرواتهم بقربهم من المنطقة الدافئة في قصر الرئاسة وتحولوا إلى ديناصورات مالية ببركة الرضا السامي. ويؤدون أدواراً لا تُعلَن، لكنها تمنحهم المزيد من الثقة وتزيد فرصهم في حماية أكبر.
الآن يبدو أن النظام يأكل أولاده.