Strong>رائحة الموت تختلط برائحة الفساد والفقر بالجريمة المنظّمة مجدّداً «الموبايل» يرنّ، مرة في مكتب مأمور سجن مزرعة طرة، ومرة تحت صخور هضبة المقطم. في الأولى، مسؤول يطمئنّ إلى أحوال هشام طلعت مصطفى «البيه»، الذي فضّل الإقامة الفردية في سجن النجوم. والثانية لصديق يطمئن إلى واحد من سكان عزبة بخيت، حيث سقطت صخرة تزن ١٠٠ طن على بيوتهم البعيدة الهاربة

وائل عبد الفتاح
لم تستطع آلات الإنقاذ دخول شوارع الدويقة. وعجز الدفاع المدني والجيش وشركات المقاولات العملاقة عن رفع أنقاض ٣٥ بيتاً دُفنت تحت الصخور.
ظلت اتصالات الاستغاثة من تحت الصخور تصرخ: «أنقذونا» والأهالي يسمعون الأصوات المدفوعة إلى الموت، وفي قلوبهم حسرة وفي عيونهم دمعة محبوسة.
أمّا هاتف إمبراطور العقارات المقيم في المزرعة، فقد ردّ وطمأن مسؤول السجن المتحدث: «ممكن تتصل بهشام بيه بعد شويه حا يرد بنفسه عليك».
فرق كبير بين سقوط الإمبراطور وسقوط الصخرة. لكنهما معاً يلخّصان سقوطاً كبيراً. لا يمرّ أسبوع إلّا وتتجلّى واحدة من كوارثه. عشوائيون بؤساء مجبرون على الحياة في قلب الخطر. يبنون بيوتاً لا تحميهم على بُعد خطوات من بيوت يبنيها الإمبراطور على أراضي الدولة. هي الدولة نفسها التي تتكاسل في منح العشوائيين بيوتاً آمنة.
في كل عام من شهر رمضان، ترتّب الهيئات «الفخمة» زيارة لقرينة الرئيس السيدة سوزان مبارك إلى المنطقة... باسمها هناك مساكن شبه فارغة، لأنّ المسؤولين في المحافظة رفضوا تسليمها للسكان. لماذا؟ لا أحد يجيب. لماذا إبقاء مساكن بلا سكّان وآخرون ينامون تحت تهديد صخور الجبل؟
٥ مناطق كاملة تدحرجت عليها صخرة أول من امس وقضت عليها والبقية تنتظر عطف الدولة. والدولة تمنح الإمبراطور أراضيها بملاليم ليبني عليها بيوتاً يبيعها بمليارات، بينما الدولة لا تستطيع إنقاذ أرواح قابعة تحت الأنقاض.
أنقاض الدولة في الدويقة وطرة فاضحة. مليارديرات تحوّلوا إلى محرّضين على القتل، وفقراء لم تلمح مأساتهم عين الدولة العمياء. العمى يقود إلى خراب في النفوس، وخراب في بلد اشتهر طوال عمره بالبناة من الفراعنة إلى المقاولين العرب. بناة مصر الآن شهود على حطام وأطلال وجرائم مخيفة مرعبة.
لماذا لم يفكر الإمبراطور المقيم في المزرعة لحظة وهو ينفق ١٢ مليوناً ونصف مليون على المغنية ويدفع ٢ مليون دولار أخرى لقتلها، أن يبني بيوتاً آمنة لسكان العزب والأعشاش وبيوت الخطر في الدويقة؟ هل ملياراته سهلة لدرجة أن يستهلكها في استعراض ذكورته (في الأنفاق والانتقام) أو ليخفي معلومات تعرفها العشيقة المتعددة الرجال؟.
وهل الأرواح سهلة على النظام لدرجة التكاسل والإهمال في توفير أبسط قواعد الأمان؟ التفكير في المقارنة مؤلم، ومشهد أنقاض الدويقة يتجاوز الألم بكثير.
إنه علامة من علامات القيامة السياسية والاجتماعية. فالصخرة التي سقطت هي جبروت سياسي ومالي أنهى جحور الإيواء التي هرب إليها الفقراء.
إنّه الخوف مرة أخرى يسيطر على مصر؛ الفقراء خائفون في جحورهم والأغنياء في قصورهم. نعم الأغنياء من رجال أعمال عدّتهم السلطة أطفالها المدلّلين يذوقون الآن طعم الخوف.
ترنّ أجراس الخطر عند العشوائية والارستقراطية الجديدة. معاً تلتقيان عند نظرات فزع تختلف أسبابها، لكنها تمنح إيقاع الأحداث في مصر طابعاً هستيرياً. رائحة الموت تختلط برائحة الفساد، والفقر بالجريمة المنظمة.
500 مفقود على عتبة الموت، بينما تختلف الحكومة والأهالي على عدد القتلى، وعلى ساعات التأخير في الإنقاذ.
الأهالي يؤكّدون «نحن بلا ثمن، لهذا وصلت أول سيارة إسعاف بعد 3 ساعات». الصحف قالت إن حسني مبارك مهتمّ بمتابعة «الحادث»... وقبلها كان ملف جريمة إمبراطور المقاولات تحت عنايته. الأرقام مهمّة أيضاً هنا. بينما سيحصل ضحايا سقوط الصخرة مبالغ معتادة، فقد اختفى المحامي الذي سينقذ الإمبراطور من السقوط... وستظلّ الرنات تصرخ في مصر حتى إشعار آخر.


القاهرة ــ الأخبار