فادي عبّودنشرت الصحف خبراً مفاده أن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش اشترت شركتي التمويل العقاري العملاقتين «فاني ماي» و«فريدي ماك» الأميركيتين المتعثرتين، في أضخم عملية إنقاذ مالي فيديرالية على الإطلاق، بغية دعم سوق الإسكان والاقتصاد في الولايات المتحدة وتجنّب المزيد من الاضطرابات في الأسواق المالية في العالم. هذا في بلاد العم سام، التي تعلّمنا أهمية الليبرالية الاقتصادية والتنافس الحر المبني على قوى السوق، فالشركتان اللتان تتعاطيان التسليفات العقارية منيتا بخسائر تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، وقد تدخلت الحكومة الأميركية لإيقاف هذا النزف الحاصل، لما فيه مصلحة الاقتصاد الأميركي. وطبعاً، هذه ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها الولايات المتحدة لحماية شركاتها الوطنية إذا عملت قوى السوق بعكس مصالحها، فسبق أن اتخذت إجراءات كثيرة لحماية الحديد والفولاذ والموز الأميركي، ودعمت شركات تصنيع الطائرات والسيارات والصناعات الإلكترونية الأميركية... وعند «الضرورة الوطنية» تضرب الولايات المتحدة عرض الحائط بكل مبادئ منظمة التجارة العالمية، ولا تزال قصة الحديد المعروفة ماثلة في الذاكرة القريبة، فقد جاء حكم منظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة في خلافها مع شركائها التجاريين، ولكنها لم تتراجع عن الحماية التي فرضتها على صناعاتها الحديدية لفترة سنوات قبل صدور الحكم الذي تم استئنافه أصلاً... وهذا ما دفع بأحد أساتذة الاقتصاد إلى وصف ما تقوم به الولايات المتحدة إزاء منظمة التجارة العالمية «بأنها كمن صعد إلى الأعلى مستعملاً سلّماً، وعندما وصل إلى الأعلى ركل السلم ليمنع الآخرين من استعماله».
تنسى الولايات المتحدة قوى السوق وتشتري شركاتها المتعثرة، ولكن الشركاء، ما عدا لبنان، في ما يسمى منطقة التجارة الحرة العربية يدعمون ويحمون ويساعدون الشركات المهددة وغير المهددة، بما في ذلك الشركات التي تمتاز بوضع سليم وسليم جداً.
وتبرز دول الخليج كمثال فاقع على ذلك، إذ إن هذه المنطقة تعيش فورة نفطية هائلة، وتقوم بخلق فرص العمل لمساكين العالم كلّه، ولا سيما عمال الهند والفيليبين وبنغلادش الباحثين عن مصدر دخل، ولو كان أقل من200 دولار شهرياً! فهذه العمالة الرخيصة والنشيطة باتت تُستخدم في تصنيع السلع المدعومة بالطاقة وغيرها في الخليج، فيستورد لبنان هذه السلع معفية من كل الرسوم، بحجة أن ذلك يساهم في زيادة النمو وخلق فرص العمل في
لبنان!
عيب يا جماعة، فازدهار صناعات البلاستيك والألمنيوم والحديد والنحاس والقرميد والسيراميك والإسمنت وغيرها من الصناعات في دول الخليج، لم يكن ممكناً لو لم تعمد حكومات هذه الدول إلى توفير الطاقة للمصانع بأقل من 5 في المئة من أسعارها العالمية، وتوفير الأراضي الصناعية بأبخس بأسعار لا تُذكر، فضلاً عن توفير الدعم المالي للصادرات، وهناك دول تعمد إلى تشجيع زيادة التصدير عبر زيادة الدعم المالي، فضلاً عن أن الدول المنتجة للمواد الخام تقدّم هذه المواد إلى المصانع التحويلية المحلية بأسعار أقل من الأسعار العالمية.
أمّا في لبنان، فالأمور تسير بالعكس، ولعل تجربة مصنع «يونيسيراميك» تجسّد المنطق المقلوب، فهذا المصنع عمل بجهد ليخفف كلفة استهلاكه للغاز في تصنيع سلعه، فلجأ الى استيراد حاجاته من الغاز السعودي بواسطة نقل الصهاريج إلى لبنان، عبر الطرق البرية، وبأسعارها المحلية، وعندما تنبّهت السلطات المحلية إلى الأمر، اعتبرته تدخّلاً رهيباً في عمل السوق، فما كان منها إلا أن تدخّلت بدورها لمنعه من استيراد الغاز إلى لبنان، إلا عبر البواخر عن طريق البحر، وبالأسعار
العالمية.
ما ينطبق على الخليج ينطبق على دول أخرى، ومنها مصر، فلبنان يصرّ على اتباع سياسة «الولد المطيع» في علاقاته الاقتصادية مع أمّ الدنيا، فهو يسمح بإغراق سوقه المحلية بأنواع السيراميك المصري المدعوم، إذ إن مصر تُؤمن الطاقة لمصانعها بأسعار مدعومة تقلّ كثيراً عن الأسعار الحقيقية.
لقد قمنا بتحرّكات واتصالات وضغوط كبيرة لتعديل السياسة اللبنانية في هذا الإطار، فكان لسان حال المسؤولين المعنيين يقول لنا: «إذا زعّلنا مصر فلن تعطينا الغاز والكهرباء»... فلا الكهرباء وصلت ولا الغاز، بل إن الميزان التجاري بين البلدين هو لمصلحة مصر بأكثر من ستة أضعاف، كذلك فإن صادرات لبنان إلى مصر ليست صناعية أو زراعية بل هي بأكثرها خردة معادن، وكل محاولات التصدير الصناعي تصطدم بالمعوقات «المصطنعة» على أشكالها وأنواعها.
لقد قدّم لبنان طاعته لمصر، فعلامَ حصل في المقابل؟
- تعرض مصر بيعنا الكهرباء بسعر 19 سنتاً للكيلووات، وهو سعر مرتفع جداً.
- وتقول لنا الآن إن الغاز غير متوفر، وعندما يصبح متوفراً فلن تبيعنا إلا نصف الكمية التي سبق أن تعاقدنا معها عليها، وهي لن تكفي إلا لتشغيل مجموعة واحدة من معمل دير عمار، الذي صمم لكي يتم تشغيله على الغاز المصري، بأسعار كنا نتمنى أن تكون مماثلة للأسعار التي تستفيد منها مصانع السيراميك المصرية، أو على الأقل مماثلة للأسعار الممنوحة لإسرائيل.
تحولت مدارس الاقتصاد الحر في لبنان إلى العمل بطريقة مستترة، ربما لما أصابها من حياء من جراء كل هذه التعديات على مبادئ الاقتصاد التنافسي، الذي تمّ التبشير بأهميته، وتمّ ربط مستقبل لبنان وحياة شعبه به... وكالعادة، لم يستطع أبناء هذه المدرسة تطبيق مبادئهم إلا على الحلقة الأضعف، أي الصناعة، فالاقتصاد التنافسي يقف مذهولاً أمام كل الاحتكارات في هذا البلد... وآخر فصل من فصول حرب التعدي على نظريات التنافس الحر كان من خلال إحياء قانون 36/67 الذي كان من المفروض تعديله، لأنه لا يتماشى أبداً مع الاتفاقات التي وقّعها أصحاب نظرية التنافس والتجارة الحرة مثل اتفاقية التنمية والتيسير العربية والشراكة الأوروبية والتي تخضع كلها لمبادئ منظمة التجارة العالمية... وإذا كان صحيحاً أن لبنان لا «يلحس» إمضاءه، فالمفروض أن تطغى الاتفاقات الدولية على القوانين اللبنانية التي تتعارض مع هذه الاتفاقات.
اليوم، وبعد إعلان موت منظمة التجارة العالمية (والبقية بحياتكم)، بات من اخترعها، يلجأ إلى دعم المؤسسات المتعثرة بشكل واضح وصريح، علماً بأن بريطانيا كانت قد سبقت الولايات المتحدة إلى إعلان وفاة المنظمة عندما لجأت إلى دعم شركة Northern Rock... إلا لبنان فهو لا يزال متمسكاً بمبادئ التنافس الحر، حتى لو تعرّض إلى تنافس لا علاقة لقوى السوق فيه، كالتنافس الشديد الذي تتعرض له معظم صناعات الطاقة المكثفة من جراء دخول بضائع إغراقية مدعومة وخاصة من شركائنا في التجارة الحرة... وما يزيد الطين بلة، أن الحكومة اللبنانية تصرّ على التدخّل في تحديد أجور القطاع الخاص، ضاربة عرض الحائط بالاتفاقات الموقّعة، وفي الوقت نفسه ترفض التدخّل لحماية شركة كانت توظف 450 لبنانياً، فتترك مصنع يونيسيراميك يموت، فيما فلاسفة الاقتصاد يتفلسفون! أليست هذه أفظع عملية إغراق
اقتصادية؟
إن سخرية القدر تفرض أن تطال زيادة الأجور عمال وموظفي مصنع يونيسيراميك المهددين بفقدان وظائفهم، فهل زيادة الأجور ستؤدي إلى خلق 450 فرصة عمل جديدة للبنانيين على أرض لبنان؟
إن حجب الحماية عمّن يستحقها، ومن يتعرض إلى تنافس غير عادل من شركات تتمتع بدعم واضح وصريح من حكومات بلدانها، هو عمل غير إنساني وغير عادل، ويؤدّي إلى معاملة اللبنانيين معاملة غير عادلة، كذلك يؤدّي إلى صيف وشتاء تحت سقف الاتفاقات التجارية الواحد، ويؤدّي أيضاً وأيضاً إلى تمييز بين «أبناء ستّات وأبناء جواري»، وسيسجل التاريخ هذا التعدي على بعض اللبنانيين كنقطة سوداء، إذ لا يجوز أن تستمر هذه السياسة الاقتصادية في ظل حكومة الوحدة الوطنية التي من المفروض أن تخلق عدلاً بين
الرعية.
لقد أطلق فخامة الرئيس عهده بكلمات حفرها في قلوب أهل الصناعة والزراعة في لبنان، وهي كلمات شفافة وواضحة: «إن الخروج من حالة الركود، وتفعيل الدورة الاقتصادية بحاجة إلى استقرار أمني وسياسي وإلى رعاية الدولة، تشجيعاً ودفعاً لعملية الإنتاج التنافسي (...) هذا الأمر يقودنا إلى حتمية الاهتمام باقتصادنا المنتج صناعياً وزراعياً وخدماتياً»... لذلك نتوجه إلى الرئيس ميشال سليمان، ونرجوه العمل على إعادة الاعتبار للقطاعات الإنتاجية وإعادة الحماية لمن يستحقها، وعدم ترك الأمور لمن عطلّ ويعطّل قانون حماية الإنتاج الوطني متستراً وراء مراسيم تنفيذية مستحيلة التطبيق.
فإذا كان التنافس الحر هو السيد، فكيف يظهر ويختفي حسب الأهواء؟ إن المنتجين في هذا البلد هم من أبناء هذا البلد، ويستحقون الرعاية، فالوقت قد حان لإعادة بعض التوازن إلى السياسات الاقتصادية المتّبعة في هذا البلد الصغير، صاحب القوانين والشعارات التي تنقرض في كل بلدان العالم، ولكنها تبقى حيّة في هذا الوطن المعذّب.