عبد الحليم فضل الله كالعادة، جرى تشغيل مبدأ «لا بد من إيراد جديد لكل نفقة إضافية» لخفض سقف التوقعات بشأن تصحيح الأجور. ومع أن هذا الشعار يخالف أبسط قواعد وضع الموازنات، ويزيح عن عاتق الدولة واجبات اجتماعية واقتصادية، بل سياسية لا غنى عنها، فقد نجح في منح الحكومة أسباباً تخفيفية، كلما بان للعيان ضعف حساسيتها تجاه الهموم والآلام العامة. وقد أحيط هذا المبدأ بكل طقوس الجدية، ووضع في صدر دفتر شروط التفاوض مع النقابات والهيئات المدنية، لكنه أخفق في إبطاء تنامي الدين العام أو تحسين معايير فرض الضرائب وتوزيع النفقات، بل تعرّض لانتهاكات واسعة على أيدي واضعيه أنفسهم، حين كان يقترب من أسوار السلطة وكاد يمسّ شيئاً من محرّماتها.
إنّ اعتراف الحكومة بمشكلة الأجور يُعدّ إيجابياً بحدّ ذاته، بعد إنكار استمر 12 سنة، تخلت أثناءها عن دورها كوسيط محايد بين أطراف الإنتاج، لكن المستوى المتواضع للزيادة، يوحي وكأنّ الأمر مناورة اضطرارية للمحافظة على الاستقرار الحرج القائم، وخوفاً من تبعات انهيار السلم الاجتماعي بكل مستوياته.
وعلى خلاف ما يبديه بعض المعنيين من قلق، لن يرتب تطبيق قرار الزيادة أعباءً يصعب تحملها، فالكلفة على الخزينة لا تتجاوز 350 مليون دولار أميركي سنوياً على أبعد تقدير، أي إنها توازي تقريباً 3.7% من مجموع الإنفاق العام فيما لو طبقت على مدى اثني عشر شهراً. وستبلغ كلفة الزيادة في القطاع الخاص حوالى مليار دولار سنوياً، أي ما يساوي 4% من الناتج الوطني وأقل من 6% من مجموع القيم المضافة التي يحصل عليها أطراف الإنتاج من غير الأجراء. وحيث إنّ الزيادة المقررة ستعوّض الأجراء عن 40% فقط من القدرة الشرائية التي خسروها في عامين، وما لا يزيد عن 60% من الخسارة بعد طرح نسبة التضخم المستورد منه، فإنّ مجموع الزيادات التي سينالها العمال لن تتيح لهم إعادة نصيبهم من الناتج الوطني إلى ما كان عليه قبل عشر سنوات.
لقد أمكن امتصاص نتائج هذه الزيادة المتواضعة سلفاً منذ طرحت مسألة التصحيح على جدول الأعمال الوطني أواخر العام الماضي، حينها تحسّب المحتكرون للأسوأ فدفعوا بمعدلات الأسعار بسرعة نحو الأعلى، ويتوقع أن يعيد هؤلاء الكرّة فيقدموا لأنفسهم جوائز جديدة في مقابل العلاوات التي سيقدمونها، محملين المستهلك مرتين ثمن علاوات التصحيح التي ستطبق. وبمعزل عن ذلك، لن يلحق تطبيق الزيادة أضراراً لا تعوض بالمنتجين والتجار وأرباب العمل، بل ستتقلص فحسب المكاسب التي حققوها جراء تراجع الكلفة الحقيقية للأجور مقارنة بالإنتاجية.
وحيث إن التصحيح المقرر ليس بحجم الأزمة، ولا يجدي نفعاً في مواجهة تضخم الأسعار في قطاع المساكن وحده، ألم يكن من واجب الحكومة التخطيط لزيادات أعلى وأكثر إنصافاً؟ ولو صحّ ذلك ما هي حدود الزيادة المفترضة، وهل هناك موارد كافية لتمويلها في القطاعين العام والخاص؟
من حيث المبدأ، كان ينبغي أن لا تقل علاوة الغلاء عن المعدل التراكمي للتضخم خلال عامين، أو عن المعدل التراكمي للتضخم منذ عام 1996 محذوفاً منه التضخم المستورد، لو رأينا عدم تحميل الحكومة أو أرباب العمل تبعات ارتفاع الأسعار في الأسواق الدولية، وكلتا الطريقتين تفترض زيادة تتراوح بين 25% و30% تقريباً وفق أكثر التقديرات اعتدالاً، فيما تقل الزيادة الحالية عن 15% من متوسط الأجور في القطاعين العام والخاص، وهي غير كافية لمساعدة الطبقات المتوسطة والفقيرة على التكيّف مع القفزات الحادة في الأسعار في السنتين الأخيرتين.
لكن مضاعفة علاوة التصحيح ستضاعف الكلفة على الخزينة والقطاع الخاص، فتعمق من حيث المبدأ أزمة الأولى وتقلل تنافسية الثاني، لكن جملة من الحقائق تؤيد الرأي القائل بأن السقف المالي والاقتصادي للزيادة لم يستنفد بعد، وأنه كان بوسع الحكومة الوصول إلى حلول أفضل، ومن هذه الحقائق: أولاً: حصول الحكومة على حصة من ضريبة التضخم، يدل على ذلك الارتفاع غير المسبوق في إيرادات الموازنة بمعدل بلغ 38% تقريباً في العامين الماضيين، فيما زادت حصيلة الضريبة على القيمة المضافة حوالى 42% ربطاً بزيادة القيمة الإسمية للمبيعات. ثانياً: حصول أرباب العمل في العديد من القطاعات على حصة كبيرة من مردود التضخم، بدليل أنّ التضخم المستورد لم يمثّل سوى نسبة صغيرة من النسبة العامة للتضخم التي عرفتها البلاد. ثالثاً: وجود موارد إضافية كان من الممكن الاستفادة منها لتمويل زيادة معتد بها للأجور، لو اجتهد وزير المالية في البحث عنها، منها على سبيل المثال والتكرار: فرض ضريبة مؤقتة على شاغلي الأملاك البحرية، فرض ضرائب على أرباح سندات الخزينة وبعض أنواع التدفقات النقدية، وليس في هذا ما يخيف، إذ بيّنت التجربة أنّ الإقبال على الاكتتاب بأوراق الدين العام وعلى الإيداع في المصارف اللبنانية لا يتأثر كثيراً بأسعار الفائدة التي تراجعت إلى نصف ما كانت عليه في التسعينيات، دون أن يتغير كثيراً سلوك المودعين والمكتتبين. هذا إلى جانب تطبيق الضريبة الموحدة على الدخل المتوقع أن تضيف حوالى 350 مليار ليرة لبنانية سنوياً إلى واردات الخزينة... أما بالنسبة إلى قطاعات الإنتاج، وخصوصاً منها الصناعة، فيمكن مساعدتها على تحمل تكاليف زيادة أعلى بمنحها سلة سخية من الإعفاءات الضريبية والبرامج المساندة وتلبية ما يلزم من مطالبها الملحة.
ما أقره مجلس الوزراء ليس تصحيحاً، إنه شكل من أشكال الإرجاء لمسائل صعبة تتعلق بجوهر نظام السلطة نفسه، يتطلب تغييرها ظروفاً مختلفة ومستلزمات سياسية معروفة.
انسرت