محمد زبيب من يعتقد أن لبنان لا يسير على الصراط المستقيم، فما عليه إلا أن يقرأ جيداً كلمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مأدبة العشاء التي أقيمت على شرفه، في فندق فينيسيا، لمناسبة اختتام مؤتمر «التضامن مع لبنان ـــ الاستقرار والرخاء الاقتصادي»... لا شك في أنه سيقتنع بعد القراءة أن كل شيء على ما يرام، وأن اقتصاد السوء، لا اقتصاد السوق، راسخ في بنية الدولة والمجتمع والاقتصاد. يستنجد الحاكم بواقعة حصلت في مجلس الشيوخ الأميركي أخيراً، عندما كان نظيره آلان غرينسبان يتحدّث عن مستقبل معدلات الفائدة الأميركية، ففهم أحد أعضاء المجلس فكرة غرينسبان، وقال له «استنتج من كلامكم أن هذه المعدلات ستنخفض»، فأجابه غرينسبان «إذا فهمت كلامي، فلا بد أنني لم أحسن القول».
يعلّق الحاكم على هذه الواقعة بالقول «إن حكام المصارف المركزية يحبذون الكلام المعقد. إنما اطمئنوا، سأتوخى الوضوح قدر المستطاع»... ولكي يكون كلام الحاكم واضحاً جداً، يقتبس من «المعلم الاقتصادي الكبير» ونستون تشرشل قوله «إن الادخار جيد، وخاصة إذا كان أهلكم قد ادّخروا من أجلكم»، فيسقط هذه المقولة على الواقع اللبناني ليقول «إن السياسات والحروب نسفت مدخراتنا، لكن، وبفضل التوسع اللبناني الناجح في الخارج، وتعلق اللبنانيين بوطنهم، ووجود قطاع مصرفي قوي ومتين، الفرصة متاحة اليوم لإعادة تكوين هذه المدخرات بسرعة»... كيف؟ يتابع الحاكم «لا بد من تعزيز الثقة والإيمان ببلد يستقطب سنوياً تحويلات من اللبنانيين العاملين في الخارج بقيمة 6 مليارات دولار، ما يمثل الدخل الفردي الأعلى في العالم».
نعم، كان الحاكم شديد الوضوح، فالهجرة تحلّ محل الإنتاج، والتحويلات تحلّ محل الاقتصاد، والدين العام يحلّ محل الثروة... وكل ذلك يؤمّن الاستهلاك الذي يساوي النمو...
ومن يفتقر إلى القاعدة العلمية التي تسمح له بفهم هذه المعادلات، فنصيحة الحاكم له أن يغرف المزيد من المعرفة من الأقوال المأثورة لـ«المعلم الاقتصادي الكبير» تشرشل، إذ يقتبس منه أيضاً قوله «في ظل النظام الرأسمالي، يملك الناس الكثير من السيارات، أما في ظل الشيوعية، فليس لدى الناس إلا المزيد من المساحات الفارغة».
فزيادة استيراد السيارات الجديدة إلى لبنان بنسبة تفوق 97 في المئة في هذا العام (17822 سيارة جديدة حتى تموز)، في ظل تضخّم يفوق 14 في المئة، وفي ظل أحداث مأساوية في بلد لا يسجل أي نمو، باستثناء نمو دينه، وفي ظل حجم للودائع يساوي اليوم أربعة أضعاف حجم الاقتصاد اللبناني، (وهذه التوصيفات كلها وردت على لسان الحاكم نفسه)... هي من الدلائل الواضحة على صحّة الخيارات اللبنانية في اعتماد «اقتصاد السوء» بحسب مفهوم سلامة!
لا شك في أن سلامة شديد الإعجاب بالنموذج اللبناني القائم على اصطناع المعجزات، فهذا النموذج «الرأسمالي» يسمح لأقل من 25 في المئة من اللبنانيين باقتناء السيارات والهاتف الخلوي والمساعِدات المنزليات وارتياد المطاعم والمقاهي وعلب الليل... أمّا البقية فتفتقر إلى التغطية الصحيّة وضمان الشيخوخة وتعويضات البطالة والتعليم النوعي والسكن اللائق وفرص العمل والخدمات الأساسية والقدرة على المشاركة...