غسان ديبةشهد الأسبوع الماضي انهيار أحد أكبر المصارف العالمية «ليمان براذرز»، هذا الانهيار شكل حدث الذروة للأزمة المالية التي تعصف باقتصاد الولايات المتحدة الاميركية منذ بدء أزمة الاعتمادات العقارية في آب 2007، ما دفع بحاكم المصرف المركزي الأميركي السابق آلان غريسبان إلى اعتبار هذه الأزمة الأخطر منذ قرن، وهو الحاكم المسؤول، بشكل جزئي على الأقل، عن هذه الأزمة منذ أن تجاهل التحذيرات المتكررة، لبعض الاقتصاديين، من الأساليب المبتكرة في أسواق الائتمان العقاري في السنوات الأولى للقرن الواحد والعشرين (Subprine mortgages)، وهي الأساليب التي أتاحت للملايين من الأميركيين من ذوي الدخل المحدود والفقراء، وحتى بعض العاطلين عن العمل وذوي الأصول الأفريقية والأقليات الأخرى... بامتلاك منازلهم عبر قروض ذات فوائد مرتفعة، في وقت بدا فيه أن ارتفاع أسعار المنازل المتواصل سيستمر لمدة طويلة مع ارتفاع في الأسعار الحقيقية للمنازل وصل إلى 85% بين عامي 1997 و2006، وهذا التطور «ذو الوجه الإيجابي»، كما عبر عنه الاقتصادي الأميركي روبرت شيلر بمصطلح «الديموقراطية المالية»، كان السبب الرئيسي في حصول الأزمة الحالية ووقوف النظام المالي العالمي برمّته على شفير الهاوية.
فمع بدء أسعار المنازل بالهبوط في عام 2006 تكشّفت هشاشة قروض الـ Subprine، وبدأت سلسلة الانهيارات والإفلاسات بدءاً من بعض الإفلاسات في المصارف المكشوفة على الأسواق العقارية وبعض محافظ الاستثمار، وكانت أبرز الإفلاسات في البداية إفلاس مصرف Narthers rock في بريطانيا في أيلول 2007، وكان يمكن أن تكون هذه نهاية الأزمة مع فقدان مئات الآلاف لمنازلهم لعدم قدرتهم على التسديد أو لتجاوز قروضهم قيمة منازلهم المنهارة... ولكن ما حدث كان أخطر من ذلك بكثير، فقد رافقت فورة الائتمان العقاري من استعمال أحدث ما توصل إليه علم الرياضيات المالية من تقنيات لاستحداث أصول اصطناعية عبر التسنيد وغيره، من خلال تحويل القروض العقارية إلى سندات مالية تباع إلى المصارف والمحافظ المالية، ويتم المتاجرة بها وكأنها سندات حقيقية، وبدأت المصارف والمحافظ المالية حول العالم بالتهافت على هذه السندات بحثاً عن الربح ذي الهوامش المرتفعة، وبالتالي أصبحت الأنظمة المالية في العالم مكشوفة على سوق عقارية في الولايات المتحدة تبلغ القروض الخطرة جداً فيها نسبة 33% في عام 2006 قبل انخفاض الأسعار في السوق العقارية الأميركية.
هذا الإنفاق أدى إلى تفاعلات تسلسلية في النظام المالي العالمي، بدءاً من عدم قدرة أحد الفقراء في الولايات المتحدة على الدفع، وصولاً إلى انهيار «ليمان براذرز» وانهيار الأسواق المالية حول العالم ودنوّ الاقتصاد الأميركي والاقتصاديات الأوروبية الرئيسية من الركود، فضلاً عن المفاعيل السلبية المتوسطة والطويلة المدى التي ستعصف بالاقتصاديات حول العالم، وإذا كان من الصعب التكهّن الآن بنتائج هذه العواصف والارتدادات على النظام الرأسمالي العالمي في المستقبل، إلا أن هذه العاصفة قضت على آخر معاقل الإيديولوجية «النيوليبرالية» التي حكمت العالم منذ أيام ريغان وتاتشر إلى الآن، أي ما يزيد على ثلاثين عاماً قضت فيها على كل الإنجازات التي حصلت في البلدان الغربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من استقرار اقتصادي وتوزيع عادل للدخل وسيطرة القطاع العام على مفاصل أساسية في النظام الرأسمالي، فمع تدخل إدارة بوش بإنقاذ Fannic Mac و Freddie Mac، أكبر مؤسستين للإقراض العقاري في الولايات المتحدة وتأميمهما (ما حدا بالبعض إلى اتهام الإدارة والمصرف المركزي الأميركي بالبلشفية)، والطلب حتى حدود التوسّل من الإدارة لإنقاذ «ليمان براذرز»، كل ذلك أنهى لمدة طويلة على الأقل مقولة تفوّق الاقتصاد الحر، وأعاد دور الدولة المركزية في الاقتصاد المطلوب منها الآن التدخل أكثر لا أقل لإنهاء الأسس المؤسساتية للمضاربات المالية واستعمال التقنيات المالية الحديثة لتحقيق الأرباح الهائلة على حساب الاقتصاد الحقيقي ومصالح الغالبية العظمى من الموظفين والعاملين الذين رأوا مداخيلهم وأمنهم الاقتصادي والاجتماعي ينهار في السنوات الثلاثين الماضية، وبالتالي بات على القوى والأحزاب اليسارية والتقدمية في العالم الغربي أن تلاقي الحركات اليسارية التي أنهت «توافق واشنطن» في دول أميركا اللاتينية وبالتالي في الدول النامية، من أجل حركة عالمية تُعيد تنظيم الاقتصاد العالمي على أسس جديدة من أجل عالم أفضل.