أقوى من السلطات ومزوّدون بأسلحة صاروخيّة وزوارق سريعة وأجهزة تعقّب ورصد مي الصايغ
نشاطات القراصنة الصوماليين في الآونة الأخيرة حرّكت الجهود العالمية في مواجهتهم، وخصوصاً مع دعوة الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، إلى «تعبئة دولية» ضدهم، على اعتبار أنهم «صناعة حقيقية للجريمة». دعوة ترافقت مع تحرّك جدي على الأرض للحدّ من النشاط المتصاعد للقراصنة، الذين يحتجزون حالياً أكثر من 10 سفن، ولا سيما أنه لا يكاد يمر يوم من دون الإعلان عن عملية خطف جديدة، غالباً ما تكون من أجل فدية كبيرة.
حتى إن أحد القراصنة اعترف بأنه قبض وعصابته فدية قيمتها 750 ألف دولار بعدما أفرجا عن سفينة ألمانية كانا قد احتجزاها في أيار الماضي. كما طلبا فدية قيمتها مليون دولار للإفراج عن فرنسيين.
القرصنة البحرية ليست أمراً مستجدّاً، بل لها تاريخ يمتد إلى آلاف السنين، حين برزت بعض المدن المزدهرة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. غير أنه شتان ما بين قراصنة اليوم والأمس؛ فمنذ فترة ليست ببعيدة، كان القراصنة يستخدمون الوسائل البدائية كالسواطير والسكاكين والمسدسات، بينما يتشكّل القراصنة الحاليون من منظمات إجرامية متخصصة تضم مقاتلين محنّكين مزوّدين بزوارق سريعة ومجهزة، وهواتف نقالة، وأجهزة تعقب ورصد.
وتبيّن من خلال اعتقال بعض القراصنة أنهم كانوا ينتمون إلى ميليشيات منظّمة لجمع الأموال. ميليشيات تجيد استخدام التكتيكات العسكرية للإيقاع بالسفن. وأدى تنامي تجارة السلاح غير الشرعي إلى تسهيل اقتناء العديد من الأسلحة المتطورة؛ فالقراصنة مزوّدون ببنادق «أم 16» و«إي ك- 47 س»، وقنابل يدوية وقذائف صاروخية. ويستخدم القراصنة الزوارق السريعة لاعتراض السفن التجارية قبل أن يصعدوا على متنها ملوّحين بالبنادق، وفي بعض الأحيان بالقذائف الصاروخية.
بيد أن ما يعقّد مهمة ضبط القرصنة وقوع المياه الإقليمية للصومال بالقرب من الممرات البحرية المزدحمة التي تربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، حيث تفتقر الحكومة الصومالية إلى القدرة على مراقبتها والسيطرة عليها.
ويؤكد مساعد وزير مصائد الأسماك شمال بونت لاند، عبد القادر موسى يوسف، عجز حكومة بلاده عن مواجهة مدّ القراصنة، فرغم أن «الرادارات تلتقط أصوات المخطوفين، ونحن نسمعهم يصرخون طالبين الاستغاثة، ومتوجّهين نحو قاعدة القراصنة في عدن، لكننا لا نملك القدرة على إنقاذهم». كما كشف عن تورط بعض رجال شرطة بونت لاند في أعمال القرصنة البحرية.
ولم يكتف القراصنة باختراق أجهزة الشرطة وكسب ود العشائر، بل وصل الأمر بهم إلى حد أصبحوا فيه أقوى من الحكومة الصومالية بفعل المبالغ المالية الكبيرة التي يحصلون عليها من أصحاب البواخر المختطفة.
ويقول حاكم ولاية «بونت لاند»، الجنرال عدي موسى، إنه «في كل مرة يتلقى فيها القراصنة أموالاً، يشترون السلاح والقوارب السريعة المزوّدة بأحدث أجهزة الملاحة البحرية، لا قدرة لنا على ملاحقتهم، إنهم أقوى من سلطاتنا».
وفيما يتوقع سكان «بونت لاند» أن يسيطر القراصنة على المزيد من المؤسسات التجارية المحلية قريباً، ويتحدثون عن قيام العصابات بتهديد السلطات المحلية، ودفع الأموال في مقابل الحصانة، يبدو أنه لن يكون هناك عجز في تجنيد قراصنة جدد ما دامت العصابات تجني مكاسب ما تفعله.
أمام هذا الواقع المأسوي في منطقتي القرن الأفريقي وخليج عدن، خلص نائب المكتب البحري الدولي، الكابتن جاينت أبي ينكار، في مؤتمر في سنغافورة، إلى «أن القرصنة المعاصرة هي تجربة تتسم بالعنف والدموية»، مشدداً على أن القانون الدولي يسمح لأي سفينة حكومية بقمع أي عمل من أعمال القرصنة في المياه الدولية.
حق مكّن الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي من الدفع باتجاه استصدار قرار بالسماح للدول الأجنبية باستخدام سفنها الحربية في المياه الإقليمية الصومالية، لمكافحة القراصنة على مدى الشهور الستة المقبلة، كما يشجع الدول الأعضاء على تقديم المساعدة التقنية للحكومة الصومالية والتعاون لمحاكمة القراصنة المعتقلين.
لم تعد أزمة القراصنة البحريين محصورة ببلد معين، بل إن قرار مجلس الأمن 1816 نقل الأزمة إلى المجال الدولي. إلا أن التحدي الأبرز يكمن في اتخاذ الجماعات الإرهابية من القرار الأممي لمكافحة القرصنة ذريعةً لتحويل المياه الصومالية إلى مرتعٍ لعملياتها الانتحارية.
وتبقى المفارقة الكبرى أنه في وقت ينظر فيه العالم إلى القراصنة على أنهم مجرمون، يلقى الأثرياء منهم معاملة المشاهير في بونت لاند، حيث قاموا ببناء فيلات أقرب إلى القصور على الشاطئ، ويتجولون في سيارات فارهة ولديهم أكثر من زوجة.
ففي الأسبوع الماضي، أقام القرصان جاما شينو حفل زفاف فخماً في مدينة جاوري. وشينو أب لطفلين ويبلغ من العمر 35 عاماً. غير أن ذلك لم يردعه عن الزواج مرة ثانية. يقول والابتسامة ترتسم على وجهه، «نحن لا نخشى الحكومة. الفتيات هنا لا يخفن منا. إنهم يحبوننا لأننا نملك الكثير من المال، لذا يرغبون الزواج منا».
أمّا العروس، رودو عبد الله (19 عاماً)، فرأت أن كل فتاة تحلم بأن يقام لها زفاف ضخم مثل هذا، والقراصنة وحدهم الآن يملكون المال الكافي لتحقيق هذا الحلم.

ورأى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن العملية هي «إنذار»، داعياً إلى «تعبئة دولية» لمكافحة هذه «الصناعة الحقيقية للجريمة». وقال إن «هذه العملية هي تحذير لكل الذين يمارسون هذا النشاط الإجرامي». وأضاف إن «فرنسا لن تقبل أن تكون الجريمة مثمرة وهذه دعوة إلى تعبئة دولية».