هل تحوّل لبنان إلى «جمهورية موز» في الزمن نفسه الذي ألقت فيه أميركا الوسطى بجمهورياتها «الموزية» إلى مزبلة التاريخ؟هذا السؤال يصبح مشروعاً عندما تتحوّل هبة بقيمة 44 مليون دولار من المملكة العربية السعودية، مخصصة لتسجيل التلاميذ في مدارس التعليم الرسمي في لبنان، إلى «الهبة التي أنقذت العام الدراسي الرسمي في لبنان» كما كتب البعض! إن الجواب بـ«نعم» عن هذا السؤال تزداد احتمالاته كثيراً في ضوء ما يواجهه لبنان. فهذه الهبة ليست الأولى من نوعها، وهي تأتي في سياق سلسلة من الهبات التي قدّمتها الدول والأفراد والقطاع الخاص منذ ما قبل حرب تموز من عام 2006 وبعد هذه الحرب، ومنها هبات خصصت لإعمار بعض القرى أو الجسور، أو خصصت لدفع التعويضات للمتضررين... فيما تخلّت الدولة اللبنانية عن دورها في كونها المؤسسة السيادية الوحيدة المخوّلة الإنفاق الإعماري والاجتماعي والجاري، وهذا الحق السيادي يوازي بأهميته الحق السيادي في الأرض والحدود والسلطة السياسية والعسكرية والقانونية... فعدم وجود تمويل كاف للإنفاق، لا ينزع هذا الحق من الدولة المركزية، إذ إنها الوحيدة التي تمتلك الحق في الاستدانة وقبول الهبات، وهذا ما فعلته الدولة اللبنانية منذ أكثر من عقدين حتى وصل الدين العام إلى أكثر من 45 مليار دولار. وبالتالي، فإن أحادية الإنفاق العام يجب أن تكون من المسلّمات السيادية في لبنان، توازي بأهميتها أحادية السلاح. إذ كما يؤدّي تشرذم السلطات المسلّحة إلى تقويض مفهوم الدولة على الصعيدين القانوني والوعي الشعبي، كذلك يفعل تشرذم الإنفاق الشيء نفسه.
هذا من ناحية المبدأ، أما من الناحية الكمية، فهذه الهبة (44 مليون دولار) تمثّل جزءاً لا يكاد يذكر من مؤشرات عدة تتصل بالإنفاق والثروة في لبنان، وبالتالي لا تمثّل كميتها سبباً للقول إنها أنقذت العام الدراسي. كما أن هذه الكمية المتواضعة لا تكفي للإقرار بعدم مقدرة الدولة نفسها على إنفاق هذا المبلغ من المال لتوفير الدعم الإضافي لقطاع التعليم في لبنان.
وهنا بعض هذه المؤشرات التي تبرهن صحّة ذلك. فالهبة المذكورة لا تمثّل إلا نسبة بسيطة جداً من بعض المؤشرات الكمية التي نوردها كأمثلة:
■ 0،2 في المئة من الناتج المحلي المقدّر بحوالى 22 مليار دولار.
■ 0،1 في المئة من الدين العام البالغ حوالى 45 مليار دولار.
■ 0،5 في المئة من الإنفاق الحكومي المحقق في عام 2007.
■ 4،0 في المئة من إنفاق اللبنانيين على قطاع الاتصالات.
■ 6،2 في المئة من إنفاق اللبنانيين على السيارات المستوردة بحسب إحصاءات عام 2007.
■ 1،0 في المئة من قيمة العقارات المتبادلة في عام 2007.
■ 0،35 في المئة من ثروة الأغنياء اللبنانيين التي تزيد ثروة الفرد منهم على مليار دولار (وعددهم سبعة أثرياء).
■ 4،0 في المئة من الإنفاق الحكومي والخاص على التعليم في لبنان.
■ 0،06% من الودائع لدى المصارف اللبنانية.
إن هذه الأرقام، وهي بالمناسبة ليست «وجهة نظر» إطلاقاً، تشير إلى مقدرة الاقتصاد اللبناني عموماً، ومقدرة الدولة خصوصاً، على أن تتولى هي بنفسها عملية الدعم الإضافي للتعليم الرسمي في لبنان من دون الحاجة للجوء إلى هبات خارجية أو داخلية خاصة. إذ بدلاً من التهليل لـ«هبات» من هذا النوع، كان الأجدر بالحكومة المبادرة فوراً إلى إقرار جملة من الإجراءات الهادفة إلى تفعيل السياسات الضرائبية والإنفاقية، بما يؤدّي إلى إلغاء الثغرات الكبيرة الموجودة في الإنفاق الاجتماعي الحكومي، ويدمج السياسات التعليمية والصحية والاجتماعية في خطة متكاملة تسهم في بناء الأسس المتينة لدولة الرعاية الاجتماعية في لبنان.
هل هذه المهمة طارئة وتجسّد أولوية من الأولويات الراهنة؟
إن النسيج الاجتماعي في لبنان يزداد تفسّخاً بعد عقود من الأزمات السياسية والاقتصادية (الحرب الأهلية، أزمة التضخم وانهيار سعر صرف العملة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات...)، وبعد اتباع السياسات الليبرالية في فترة ما بعد الحرب، والتي تآلفت لفترة غير قصيرة مع سياسات توزيعية ـــــ تبذيرية ذات طابع طائفي... كل هذه الأحداث والسياسات أدّت إلى ضعف واضح في التماسك الاجتماعي والوطني، مترافقاً مع استقطاب حاد في توزّع الدخل وزيادة الفقر. والأخطر من ذلك أن يتحوّل هذا التفكّك إلى انقسام المجتمع بين قلّة تتحكّم بالثروة والسلطة وأكثرية مهمّشة، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، تعتمد على الهبات والتبرعات الفردية و«الزعاماتية» و«الزبائنية» في الأمور الأساسية كالتعليم والصحة.
إن مهمة الدولة تكمن في تسلّم زمام المبادرة الاقتصادية والاجتماعية عبر جعل النظام المالي الحكومي (إنفاق + ضرائب) الأداة الأساسية لقيام دولة فاعلة وراعية موحّدة يصبح فيها الإنفاق الاجتماعي والإعماري (كالدعم الإضافي للتعليم الرسمي) حقاً من حقوق الأفراد، خاضعاً للعملية الديموقراطية وصراع القوى على توزيع الدخل، بدلاً من أن يكون هبةً أو تبرّعاً من أحد.