200 قصر في بغداد وحدها. 1000 قصر في العراق كله. أساطير وروايات عن غرام صدام حسين ببناء القصور. هو انتقام من فقر طفولته؟ أم تعظيم «لمجده الخالد»، كما فعل أكبر طغاة التاريخ؟ أم مجرّد هواية؟ الأرجح أنّ شيئاً من كل هذا معاً. لكن الأكيد أن الرجل كان «مدمن قصور»، يتابع أدقّ تفاصيلها. وهنا يروي المستشار الهندسي لصدام، موفق الطائي، تفاصيل قصة الرئيس الراحل مع قصوره
بغداد ــ زيد الزبيدي
أثارت الفكرة التي عرضتها محافظة بابل أخيراً، بعرض «قصر الضيافة» في المدينة الأثرية للاستثمار «باعتباره أحد القصور الرئاسية» السابقة، وتحويله إلى متحف ومنتجع سياحي، فكرة إمكان استخدام «القصور الرئاسية» التي بناها صدام حسين، في مجالات شتى، من بينها الاستثمار الثقافي والسياحي، وحتى الآثاري.
على أنّ «قصر بابل» لا يُعَدّ، في الواقع، من القصور الرئاسية، لأنه بُني على أساس استخدامه كدار ضيافة للوفود التي تحضر مهرجان بابل السنوي.
إلا أنّ تصويره قصراً رئاسياً، يعكس الاختلاف الرقمي في أعداد ما تُسمى «القصور الرئاسية»، المنتشرة في أنحاء متعددة من بلاد الرافدين؛ فهناك من يقول إنّ عددها يربو على الـ300، فيما لا تتجاوز حسب أرقام المسؤولين الحاليين الـ70 قصراً. غير أنّ أيّ رقم يُعطى عن عدد القصور السابقة يمكن أن يكون صحيحاً، بحسب المعيار الذي على أساسه يُصنَّف البناء على أنه قصر أم لا.
وبحسب المستشار الهندسي لصدام حسين، الدكتور موفق الطائي، الذي تحدّث لـ«الأخبار»، فإذا اعتبرنا قصر بابل، أو قصر الكوفة، أو قصر أحمد بن بلا، وسواها من الأماكن المخصّصة للزائرين والوفود، من القصور الرئاسية، فإن العدد يصبح كبيراً.
إلا أنّ هناك جانباً آخر من الموضوع، وهو أنّ القصور الرئاسية المعروفة، وخاصة في بغداد والبصرة وتكريت والموصل، تتكوّن من أعداد غير محدودة من القصور، يتوسّطها واحد مركزي. أمّا البقية، فتُوَزَّع وظائفها حسبما كان يراه ويفكر فيه صدام وحده.
وهناك اليوم، من يحاول إعطاء ولع صدام حسين بالقصور طابعاً اجتماعياً، باعتباره رد فعل على حياة الضنك التي عاشها في صباه، في بيت زوج والدته ابراهيم حسن، وهو من طين، وفيه كوّات غير متناسقة، وغير موحّدة الحجوم من جانبيه، ومكان النوافذ، حيث كانت تعيش فيه العائلة بأكملها، ما يعكس حالة فقرها الشديد.
غير أنّ العديد من معايشي صدام لا يؤيدون هذا الرأي، ويذهبون إلى مناحي أخرى، ترتبط أساساً بالفورة الاقتصادية التي سببها ارتفاع أسعار النفط في سبعينات القرن الماضي، وما رافقها سياسياً من تحديد موعد لقمة عدم الانحياز في بغداد، في عام 1980، حيث كان مقرراً أن يكون صدام رئيساً لمجموعة دول عدم الانحياز، إلا أنّ اندلاع الحرب العراقية ــ الإيرانية حال دون انعقادها في عاصمة الرشيد.
لهذه الأسباب استأجرت الحكومة معظم القصور الفخمة العائدة لأفراد، في شارع الأميرات في المنصور، وجرى تجديدها، وإنشاء الفنادق الفخمة.
غير أنّ كل هذه المشاريع تعثّرت مع اندلاع الحرب العراقية ــ الإيرانية. وبعد توقف الحرب، واعتقاد صدام بأنه سيستقطب العالم بأجمعه، بدأت تتبلور من جديد فكرة إنشاء القصور الرئاسية، حتى أصبحت شبه حالة إدمان عنده.
وفي هذا السياق، يقول الطائي إنّ الوضع الاقتصادي بعد الحرب، لم يكن يسمح بإقامة مشاريع بناء ضخمة، ثم جاءت حرب الكويت وتداعياتها من عقوبات اقتصادية وحصار، فأصبح الحلم متعذر التحقيق. إلّا أن «حالة الإدمان» على البناء لدى صدام استمرت، ربما لأنه كان يتصور إمكان استضافته قادة العالم في يوم ما، وربما لأنه أراد أن يكون المتفوق على ذوي القصور البالغة الفخامة التي شيدها أثرياء الحرب والحصار آنذاك، والتي انتشرت بكثرة في بغداد والمحافظات.
وبالحديث عن أثرياء تلك الفترة، عرض صدام حسين مجموعة القصور الرئاسية في الأعظمية للبيع قبل اكتمالها، بادّعاء أنّه لا يملك المبالغ الكافية لإتمام تشييدها. وبالفعل، فقد اشترى أحد التجار المعروفين هذه القصور، بسبعين مليون دولار، دفعها نقداً، ثم عاد وقدّمها هدية إلى صدام حسين!
ومن أشهر القصور الرئاسية في بغداد، مبنى القصر الجمهوري «قصر السلام» الذي وضع تصاميمه البريطاني جيمس بريان كوبر، واكتمل بناؤه في ستينات القرن الماضي، ويقع على ضفة دجلة في جانب الكرخ. وقد تحوّل بعد الغزو إلى مقر السفارة الأميركية. وكان الأخير مكان سكن لعدي صدام حسين، وإلى جانبه المقر الرسمي لأخيه قصي. ثم أُلحق به مبنى البرلمان، وهو من تصميم كوبر أيضاً، وقد سيطرت القوات الأميركية عليه، وجعلته نواة المنطقة الخضراء. و«قصر السجود»، الذي يُعد من أكثر القصور الرئاسية جمالية وبذخاً، يقع في مكان «قصر الزهور» الملكي، الذي كان قد تحول إلى مبنى لوزارة الثقافة والإعلام، قبل انتقالها إلى المبنى الحديث قي منطقة الصالحية.
واليوم، باتت المنطقة الخضراء تضمّ معظم منطقة «كرادة مريم». وقد خصصت القصور التي جرى إلحاقها لسكن المسؤولين الحكوميين، الذين استولى بعضهم على قصور حتى في الجهة المقابلة للقصر الجمهوري في «الكرادة الشرقية»، مثل بيت طارق عزيز، الذي يسكنه الآن رئيس المجلس الإسلامي الأعلى عبد العزيز الحكيم.
ومعظم حكّام العراق الحاليين، يسكنون في «بيوت الحاشية»، باستثناء الرئيس جلال الطالباني الذي يقيم خارج المنطقة الخضراء. وهو كان يسكن في بيت سكرتير صدام، أحمد حسين، في المنصور، ثم انتقل إلى أحد منازل المسؤولين السابقين (عبد حمود) في الجادرية بالقرب من بيت طارق عزيز.
وباستثناء «قصر السجود» الذي لحق به دمار كبير خلال الاحتلال، وجرى إصلاحه جزئيّاً، والذي تشغله القوات الأميركية حالياً، يُعَدّ المجمع الرئاسي قصراً واحداً، بملحقات مختلفة، ويليه في داخل مركز بغداد «قصر الأعظمية»، يقابله تقريباً من جهة الكرخ «قصر أحمد بن بلا»، الذي كان مخصّصاً لإقامة الرئيس الجزائري الأسبق عندما يزور العراق.
كما يُعدّ قصر «الرضوانية» قرب المطار أيضاً، من أوسع المجمعات الرئاسية في العاصمة، إذ تبلغ مساحته 6.9 ميلاً مربعاً، وهو أول قصر رئاسي فتّشه مفتشو الأمم المتحدة في 1998 للبحث عن أسلحة دمار شامل تبيّن أنها غير موجودة.
وإذا عرفنا أن في بغداد خمسة مجمعات لقصور رئاسية، يمكن احتساب المجمعات الأخرى، في الموصل وتكريت والأنبار والبصرة وبحيرة الثرثار. إلا أنّ هناك قصوراً أخرى تنتشر في أنحاء متفرقة من البلاد، وهي ليست أفضل مستوى من بيوت الأغنياء العراقيين، ومنها ما لم يتدخل صدام في بنائها، مثل «قصر الكوفة»، وهو عبارة عن مبنى كان يُطلق عليه تسمية «القصر الملكي»، وتحول في العهد الجمهوري إلى فندق، ثم ارتأت بلدية النجف ترميمه ليصبح «القصر الرئاسي»، الذي خُصِّص لاستضافة كبار الزوار والضيوف العراقيين والأجانب.
ويلاحظ الطائي أنّ القصور الرئاسية القديمة، أُدخلت عليها تحويرات من جانب صدام، وخاصة بعد الدمار الذي لحق بها في حرب 1991. بينما القصور الحديثة، كان يتدخل بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة. وبحسب تقرير للشعبة الهندسية في ديوان الرئاسة، «قام صدام حسين بـ117 زيارة إلى موقع قصر الفاو، وأبدى 437 ملاحظة وتوجيهاً».
وعن دور المستشار الهندسي، يشير الطائي إلى أنّ صدام حسين مستشار نفسه، إلا أنه مع ذلك أحاط نفسه ببعض من يأخذ رأيهم في مسائل تخصصية، «للاستئناس به». ويتذكّر الطائي أنّ صدام، عندما يبدي ملاحظة، تكون بمثابة أمر، وعلى الكادر الهندسي والفني تنفيذه. ولكنه عندما يستفسر أو يستوضح، يكون المجال مفتوحاً أمام المعنيين.
والملاحظ أنه لم يكن يعير اهتماماً لكون المستشار حزبياً، أو طائفياً. فعلى سبيل المثال، لم يكن مستشار التصنيع العسكري، أو المستشار الهندسي، من البعثيين في يوم ما، بل كانا «شيعيين»، ومن عائلات يسارية معروفة.
وعن كيفية اختيار صدام لتصاميمه الهندسية للقصور، يوضح الطائي أنّ الرئيس الأسبق كان مولعاً بالاطلاع على الرسوم الهندسية «الفاينل» لأهم كليات الهندسة في العالم، وكان يختار «توليفة» منها لتعرض على الدائرة الهندسية، التي تضع بدورها رسوماً للنماذج الأولية، ثم تتكرر العملية، بتدخلات من صدام، وصولاً إلى النموذج الذي يختاره.
وعن أهم اختياراته في هذا المجال، يسمّي الطائي القاعة المائية في قصر الثرثار، التي تحيط بها المياه من كل الجوانب.
بدوره، فإنّ مهندساً آخر في الدائرة الهندسية الرئاسية السابقة، فضّل عدم الكشف عن هويته، يلفت النظر في دردشة مع «الأخبار»، إلى ولع صدام ببناء أكبر وأضخم المساجد الإسلامية في المنطقة، مثل جامع «أم المعارك»، وجامع الرحمن في المنصور، وكذلك مشروع جامع مطار المثنى، «لأنّ صدام كان يفكر في الخلود على طريقة الخلفاء والحكام التاريخيين، الذين يُشار إليهم من خلال ما تركوه من عمارة ومدن».


«أسلوب اللا أسلوب» في العمارة

يلاحظ المعماريون سمة الترف والبذخ في قصور صدّام حسين، إلّا أنهم ينتقدون المنهج المعماري فيها، لأن بناءها لم يأتِ وفق مدرسة محددة، ولا حتى على أسلوب واحد في البناء، ما جعل معظمها خليطاً غير متجانس في البناء الواحد حتى، وهذا ما يطلق عليه موفق الطائي تسمية «أسلوب اللا أسلوب»، أو «أسلوب صدام حسين» في العمارة.
ويلفت الطائي إلى أنّ كل الدول في العالم تعتمد على تصاميم الشركات المعمارية والمهندسين، بينما قصور صدام «لم يكن لها مصمم»، باستثناء بعض المباني التي شُيِّدت قبل الحصار، وتلك التي صمّمها المهندس البريطاني الشهير جيمس بريان كوبر، في بدايات خمسينات القرن الماضي مثل «القصر الجمهوري» ومبنى مجلس الأمة ووزارة الدفاع.