عبد الحليم فضل الله ولى زمن الأحادية القطبية أو يكاد، إذ إن الإمبراطورية التي خطط لها المحافظون الجدد، سرعان ما خفتت أضواؤها، وتم ذلك بأسرع مما توقع المؤرخ الأميركي نيال فيرغسون، الذي لاحظ تراجعاً تاريخياً في عمر الإمبراطوريات، فالتوسع لا يتطلب قوة عسكرية راجحة فقط، بل إرادة قتال وموارد وفيرة وقدرة على تحمل الويلات، لقد كان حلم أولئك المتعطشين للسيطرة أن ينتهي التاريخ بين أحضان الإمبراطورية الساعين إلى بنائها، فلم تشغلهم الانعكاسات الاقتصادية لمشاريع التوسع، بل وجدوا فيها استثماراً جيداً ورابحاً... فاختلطت الإيديولوجيا المتزمّتة بأطماع اقتصادية وتصورات سطحية للعالم لتصنع ذلك المزيج الغريب: إدارة جورج بوش.
تقّدم أزمة الانهيارات المالية إشارة واضحة على استحالة قيام إمبراطورية في العصر الحديث، فزمن الإمبراطوريات ولّى إلى الأبد، وبنتيجة سياسات الحرب تداعت الراديكالية الصلبة التي مثلها المحافظون الجدد، الذين حاولوا اللعب مع التاريخ أو التلاعب به، وتتداعى اليوم الراديكالية الناعمة التي تعبر عنها الليبرالية الجديدة، لقد فشلت إدارة بوش في الانتقال من الهيمنة إلى السيطرة ففوتت على الولايات المتحدة فرصة الاحتفاظ بمفاتيح العولمة، ولم تحقق بالمقابل انتصارات عالمية كاسحة، وها هي تتلقى من الأسواق عقوبات قاسية.
ما الذي ينتظرنا في الجانب الآخر من النفق، هل هو زمن اللاقطبية على ما يقول ريتشارد هاس حيث تؤثر عشرات من الدول والمحاور على مسار النظام الدولي، أم فوضى عالمية يتولاها فاعلون سياسيون لا يمكن التحكم بأدائهم، أم تجدد للحرب الباردة، وربما يكون حال أميركا هو الانكفاء النسبي إلى ما وراء أسوارها القارية لالتقاط الأنفاس ولترميم «قوتها اللينة» التي ترمز إلى جاذبية نموذجها وقدرته على الإقناع. هناك نتيجتان مؤكدتان: صعود الدول القومية الكبيرة، وزيادة الطلب على دور الدولة، من أولئك الذين تواطأوا عليها ذات يوم لجعلها لقمة سائغة في أفواههم.
كيف ساهمت التطورات السياسية في ثقب عجلة الليبرالية الجديدة؟
على أثر أحداث 11 أيلول 2001، أدركت الولايات المتحدة أن الرغبة العارمة بالانتقام، لا يقابلها لدى الأمة الأميركية استعداد موازٍ لتحمل الثمن، كان عليها أن تنتقل فوراً إلى استعمال «حقوقها السيادية» لجباية ذلك الثمن من العالم بأسره، يساعدها في ذلك أمران: عملة مرجعية تكوّن ما لا يقل عن ثلثي الاحتياطيات العالمية، فهي إذاً تمتلك سلطة القرار النقدي العالمي، وتفوقاً عسكرياً لا مثيل له، فهي إذاً قادرة على إجبار الدول الأخرى على اتباع ما تشاء من سياسات. في الوقت الراهن تتراجع قدرة أميركا على «الجباية العالمية»، فمن جهة باتت مكانة الدولار مهددة، والفوائض المالية آخذة بالانتقال بكثافة من الغرب الرأسمالي إلى دول الأطراف، ومن جهة ثانية لم يعد بوسعها في المستقبل المنظور شن حروب إضافية، وخصوصاً بعد الأزمة الراهنة التي ألقت على عاتقها التزامات ضخمة تضاف إلى تلك التي راكمتها في السنوات السبع الماضية.
النتيجة المروعة بالنسبة إلى واشنطن هي انكسار المعادلة الاقتصادية ـــ العسكرية التي جعلتها تتربع على عرش الاقتصاد العالمي دون جهد، وأتاحت لها التعويض عن تراجعها الاقتصادي بهيمنتها الحربية. إن أخطر ما يعنيه انكسار تلك المعادلة هو أن هذه الدولة لن تستطيع بعد اليوم أن تعتاش على موارد الآخرين دون مقابل، وليس عليها إلا أن تتبع القواعد الاقتصادية التقليدية التي تتبعها الدول المتعثرة والفاشلة.
أزمة الأسواق المالية هي إذاً مقدّمة لشريط طويل من المشاهد: انهيارات لا تأتي إلا مرة أو مرتين في كل قرن على حد تعبير آلان غرينسبان، تليها محاولات عاجلة للإنقاذ تقوم ركائزها حسب المدير العام لصندوق النقد الدولي، على ضمان السيولة، وشراء الديون الهالكة وتأميم المخاطر، وإعادة هيكلة ديون الشركات والمؤسسات المالية. لكن هذه المحاولات ستصطدم بظروف الأزمة الاقتصادية الأميركية، واستنزاف الموارد في موازنات التسلح والحرب، وما يقلل من فرص نجاح عمليات التصحيح هو افتقار أميركا للوحدة والتصميم اللازمين لتنفيذ برامج إنقاذ شاملة وقاسية تتطلب تماسكاً وطنياً وثقة بالإدارة السياسية. بعد ذلك تأخذ الإدارة الأميركية بالبحث عن الحلول في الخارج، فتسعى إلى إلزام دول ومؤسسات وصناديق ائتمان أجنبية بالمشاركة في تعويم المصارف المتعثرة. دول قليلة ستنصاع دون تردد (على نحو خاص دول نفطية)، الآخرون سيغلّبون مصالحهم على المصالح الأميركية الصرفة، ولن تقوى إدارة بوش على إخماد «التمرد» الذي ستواجهه، في ظلّ ظهور توزيع جديد للقوى العالمية، فالموارد اللازمة للتعامل مع الأزمة ستمنع واشنطن من التفكير بشن حروب جديدة، بينما ترتفع أهمية الدول التي راكمت فوائض وانتهى إليها الجزء الأكبر من احتياطيات الدولار الدولية، (الصين روسيا ومجموعة الدول المالكة لصناديق الثروات السياديّة). احتمالات أخرى: تباطؤ إن لم يكن توقف وتيرة التحرير الاقتصادي في العالم؛ تحولات إيديولوجية، فالدولة الأقوى كان من مصلحتها في ما مضى تحرير الأسواق وتفكيك القطاع العام وكف يد الدولة، لكنها الآن معنية أكثر باعتماد سياسات تجارية حمائيّة وتعزيز حضور الإدارة العامة لاستيعاب الأزمة، وردم فجوة المنافسة المتزايدة بين المثلث الصناعي الغربي والأسواق الناشئة.
هناك حماقات عدة يمكن أن ترتكبها إدارة بوش قبيل رحيلها، أكثرها خطورة فرض ضريبة تضخم طائلة على العالم، من خلال خفض ملموس في قيمة الدولار الخارجية، وفي اليوم التالي يعلن وزير الخزانة الأميركي أن الأسواق صححت نفسها بنفسها وما علينا إلا احترام إرادة الأسواق!