Strong>وائل عبد الفتاحفجأة اشتعلت الفتنة. من دون مقدمات. فقط تصريحات عن الغزو الشيعي وتصريحات مضادة عن الجاهلية السنية. تورط جماعي في مشروع الفتنة وجماهير مشحونة بهوس الدفاع عن العقيدة ضد الغزو. فتنة لا يظهر حتى إصابع من يشعلها؟

الغزو والثورة يتقاذفان النيران



هل تشتعل فتنة كبرى بين السنة والشيعة؟ لا أحد مشغول بالإجابة. الجميع متورط في مباراة تتدحرج فيها كرة نار مشتعلة وسط صيحات انتصار وهتافات على طبول الحرب. البداية كانت من كلمات للشيخ يوسف القرضاوي عن الغزو الشيعي. قال: «خطرهم يكمن في محاولتهم غزو المجتمع السني، وهم يهيئون لذلك بما لديهم من ثروات بالمليارات، وكوادر مدربة على التبشير».
القرضاوي شهير ومؤثر، يقيم في الدوحة بإحساس المنفي القديم من أيام عضويته لـ«الإخوان المسلمين». ورغم حفاوة قطر (حكامها وقناة «الجزيرة») به، إلا أنه يقف في منطقة وسطى بين فقهاء السلطان ودعاة الثورية الإسلامية.
الشيخ الثوري يحذر من غزو «خارجي». رد عليه متطرفون في إيران بطريقة مشابهة. قالوا إنه يتحدث نيابة عن «زعماء الماسونية العالمية وحاخامات اليهود» وطالبوه بالتخلص من «العصبية الجاهلية». ورأوا أن «الشباب العربي يقبل على المذهب الشيعي رغبة في الثورية». هل هي حرب منافسة على «ثورية» الإسلام؟ ركب الخلاف هستيريا دينية مقيمة، وتحول إلى حرب للدفاع عن القرضاوي ضد «متطرفي إيران». تدحرجت كرة اللهب وأصبحت الحرب على الشيعة.
الصحافة اشتركت في إشعال الفتيل وتسخين الفتنة. لا فرق بين صحيفة محافظة أو ليبرالية، ولا بين معارض للنظام ومؤيد له. أسهم المزاج الرمضاني في تحويل الفتنة إلى «نضال إيماني» ضد «كائنات» كأنها هابطة من كوكب آخر. المعركة صنعت عدواً جاهزاً في الذهن، منذ أن خطفت ثورة آيات الله الإعجاب في اللحظات الأولى. إعجاب على مستوى النخبة. فقد كان الجمهور العمومي لا يستطيع تقبل فكرة آتية من الشيعة. وهذا هو المدخل الذي حولت فيه الأنظمة العربية ثورة آيات الله إلى بعبع لـ«الجماهير المؤمنة» التي كان عليها مقاومة تصدير «الثورة».
حدث هذا في بلاد الثروة والثورة على السواء. بلاد الثروة خافت من العدوى القريبة من حدودها. وبلاد الثورة كانت في مرحلة الشيخوخة المبكرة تلملم جراح الهزيمة وتحاول العبور إلى نادي الحلم الأميركي بالسعادة والرخاء. هكذا قرر أنور السادات استقبال الشاه، رمز الطغيان وسرقة ثروات الشعوب، تحدياً لثورة تبحث عن العدل وتتحدى أكبر قوة في العالم: أميركا.
لكنه حكم رجال دين؟ وعودة بالمرأة إلى البيت والشادور؟ وطائفة تفرض قانونها: ولاية الفقيه؟ ودولة ستدخل تحت الحصار بعد خروجها من الرعاية الأميركية؟ أسئلة مربكة لثورة لم تجد الأنظمة خطاباً لمواجهتها إلا بترويج لعقيدة الخوارج: الشيعة واختصار إيران في الشيعة، والشيعة في مؤامرة إيران على المنطقة العربية.
الاختصارات المربكة حجزت لإيران والشيعة مكاناً ملتبساً في عقلية المصريين. وهو ما أسهمت فيه رسائل من داخل إيران نفسها، لم تجعل المصريين يستمعون إلى أصوات أقل حدة، إلى أن فوجئ جمهور مكتبة الإسكندرية العام الماضي بمحمد خاتمي متحدثاً بطريقة مغايرة لصورة رجل دين ينتمي إلى نظام آيات الله. عدد كبير من الأسئلة وصل إلى المنصة عن رأيه في الصراع بين السنة والشيعة. رد خاتمي يومها بإجابة ذكية قال فيها إن الخلاف سر ازدهار الحضارة. وقال: «تصوروا لو أن العالم من دون اختلافات. لم يكن شيء من الإنجازات قد تحقق. أما النزاعات والحروب فأسبابها دائماً سياسية واقتصادية».
المناخ مشحون إلى درجة اتهمت فيها الجماهير المتحمسة جماعة «الإخوان المسلمين» بأنها تركت القرضاوي وحده لانتقادات علماء الشيعة. ورد المرشد العام، محمد مهدي عاكف قائلاً: «أرفض سوء الأدب والتطاول على الشيخ من السنة والشيعة». كما قال عن الشيعة: «هم مسلمون لهم مذهبهم لكنهم يعبدون الله ويتبعون النبي وقبلتهم هي الكعبة ويتبعون تعاليم القرآن».
الشحن كان قوياً وجذاباً إلى درجة مثيرة للدهشة. ونسي المشحونون قضايا وكوارث محيطة (حرائق ومقابر جماعية في وسط القاهرة وجرائم قتل شنيعة...) وتفرغوا لمتابعة مباراة كرة النار.
اللافت أن هناك إدراكاً عاماً، أن هذه الفتن هي غطاء لترتيبات أخرى سياسية. حرب سرية تستهلك طاقات مخيفة. لكن إيقاع الحشد يصم الآذان ويعمي العيون وتسير الجماهير بعواطفها الملتهبة نحو الفخ المنصوب، وهي تتصور أنها فعلت أقوى ما لديها «لإنقاذ الدين».
من يشعل الفتنة؟ هل هم الشيوخ المتصارعون على توكيل ثورية الإسلام؟ أم حكام يحركون الفتنة عندما يريدون؟ أم أجهزة مخابرات تتحكم في الجماهير عن بعد؟ الإجابات كلها تدور في تفسير المؤامرة. لكن الأخطر أنها ليست مؤمراة وليست إلا علامة من علامات الخروج من التاريخ.

الأحلاف والمخططات و«اللعبة الخطرة»


تظهر فتنة السنة والشيعة في مواقيت مثيرة للدهشة، سياسية غالباً. لكنها تلعب على سخونة المشاعر الدينية. تُشحن مشاعر دينية بالدفاع عن خطر «وهمي» ضد الجماعة الصغيرة. هذا فتيل القنبلة النائم بالقرب من السطح
الكلام عن «المد الشيعي» ارتبط أخيراً بإعادة ترتيب التحالفات في المنطقة العربية. وظهر فيه اللعب على حساسيات طائفية كانت خافتة تماماً في بلد مثل مصر. لم يعرف أهلها تقريباً أن السيّد حسن نصر الله شيعي إلا عندما ظهرت دعاية إعلامية تتحدّث عن أنه «رأس حربة التشيع الذي سيقضي على السنة».
حسن نصر الله هو أول «بطل شيعي» للأمة العربية، ولأنه ليس مثل الأبطال الآخرين، تخفي ملابسهم هوياتهم العقائدية، كان حاضراً بشكل دائم التزاوج بين بطولة المقاومة وشيعية بطلها. وطرحت الأسئلة: هل هي خطوة باتجاه تفكيك عروبة هي منهارة بالأساس؟ أم سير نحو تحقيق الهلال الشيعي؟ وهل سيتحوّل السنة إلى شيعة في رد فعل على معجزات حزب الله الكاشفة للحكام السنة في العالم العربي كله؟ الأسئلة مقلقة لجمهور لم يتعود التفكير، وخصوصاً مع الاندفاع نحو زمن الزعيم الديني مع غياب تيار ليس هو مؤمناً بالإمام الغائب ولا خاضعاً للرئيس الدائم. تيار لا يحارب أميركا بمنطق الدفاع عن الحق الإلهي ولا يدخل في حضانتها لأنها قدر العالم الذي لا يمكن مقاومته.
كوندوليزا رايس بعد حرب تموز 2006 حاولت أن تقيم «حلف المعتدلين» في مواجهة آخر أطياف المقاومة. وعلناً كان التخويف من «المد الشيعي» ومحور إيران ـــــ حزب الله وانتشار الشيعة مع كاريزما البطولة في الحرب.
مصر كانت قلب المعتدلين، لكن السهم ينطلق عادة من السعودية. ولم يكن صعباً أن تغذي كوندي ورجالها مشاعر الخوف من الجار الإيراني، وخصوصاً أن ذاكرة تصدير الثورة الإسلامية لا تزال حية في وجدان الحكام. وجهازها الإعلامي جعل من إيران بعبعاً سينشر شيئاً غامضاً اسمه الشيعة وسيأتي بحكام يطلبون القداسة المطلقة مثل آية الله الخميني.
هذه إذاً ليست المحاولة الأولى في لعبة تسخين المنطقة وتجهيزها لمواجهة بين «الاعتدال السني» و«التطرف الشيعي». لعبة خطيرة ومعقدة، تفصل «الدول» عن جمهورها العام الأكثر ميلاً إلى أبطال من نوعية حسن نصر الله. وتفصل أيضاً بين حرب العقائد والتضامن السياسي. وتعمل على أن تكون صورة أبناء المنطقة عن أنفسهم هي نتاج صراع بين عقول حديثة وأجساد ترتدي ملابس قديمة. اللعبة تعيد تعريف الإنسان بهويته الوليدة (دينية وطائفية وعائلية). وهذه حرب وحدها تتخذ كل مرة عنواناً مثيراً. هذه المرة: حرب على المدّ الشيعي.

المذهب السرّيإلى وقت قريب كان الجمهور العام لا يفرق بين الشيعي والشيوعي، ويرى أن كليهما: لا يعرف الله وكافر. وأنصاف المتعلمين يرون بمنظار فقهاء السنة المتعصبين ويتخيلون أن الشيعة «لا يصلّون على النبي محمد وينادون في الأذان فقط باسم علي بن أبي طالب» وغيرها من خرافات صنعتها عداوة سياسية تتخذ شكل التجريح الديني.
تاريخ طويل من العداوة عن بعد في بلاد تحت سيطرة المذهب الواحد. ولم تتغير النظرة رغم كل محاولات التقريب بين المذاهب. لكن رغم أن المصريين سنّة من الناحية الرسمية، لكن محبتهم لآل البيت وطقوسهم الدينية قلبها شيعي.
مصر لم تنس ماضيها الشيعي عندما كان الأزهر مركزها الكبير أيام الفاطميين، لكن صلاح الدين الأيوبي حاربهم، فتحوّل المصريون بفعل الخوف السياسي إلى عقيدة السلطة، لكن قلوبهم ظلت مع هوى قديم بآل البيت. الهوى والطقوس ظلت تنتقل عبر الأجيال من دون توصيفها ضمن عقيدة «الشيعة».
صالح الورداني في كتابه عن «الشيعة في مصر» حكى أنه «في منتصف الأربعينيات، بدأ النشاط الشيعي يبرز في مصر على يد جماعة التقريب وقد استمر هذا النشاط حتى فترة السبعينيات، حين ظهرت جمعية آل البيت، إلا أنه بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، انعكس موقف الحكومة المعادي لإيران عليها وصدر قرار بوقف نشاطها».
وبسبب الخوف من «تصدير الثورة»، انتقل ملف الإيمان بالتشيع من الأزهر إلى أمن الدولة. وأصبحت أجهزة الأمن تنظر للشيعة على أنهم تنظيم سياسي ممنوع.
4 آلاف هو عدد الشيعة في مصر، كما يرى المتسامحون من أهل السنة. «لكنهم مليون يتسللون بين الطرق الصوفية»، كما يرى محمد الدريني رئيس «مجلس آل البيت»، الذي اعتقل مرات عديدة وله آراء صادمة إلى حد المطالبة بالأزهر الفاطمي.
الشيعة في مصر عقيدة شبه سرية. يتحالف في مواجهتها علماء الأزهر ومروجو الكتب الصفراء للوهابية، وخلفهم جمهور واسع تغويه لعبة التكفير. هنا تنعش حروب النفي والقتل المعنوي للنفوس المهزومة وتحشد خلفها جماهير متعطشة للدفاع باسم شيء كبير.
رائحة الحرب تتصاعد، وخصوصاً بعدما أصبح للشيعة مساجد في مصر بعد اتساع أعداد العراقيين المهاجرين. قد تكون الرائحة باردة من دون رصاص ودماء الآن، لكنها مقدمة لحرب حقيقية، لحروب وفتن لا نجاة منها أبداً.