الأستاذ ـ المستشار ـ المهندس يخرج عن النص «الدولة تبخرت». محمد حسنين هيكل كان حزيناً وهو يلتقط الملحوظة في دردشة مع يوسف القعيد نشرتها «الدستور». لم يكن في الحديث جديد أكثر من مشاعر أشهر صحافي مصري تجاه دولة غارقة في لحظتها الحرجة
باتت عبارات محمد حسنين هيكل الناقدة للدولة تفلت منه كثيراً في السنوات الأخيرة. لكن، وبمناسبة الاحتفال بسنته الخامسة والثمانين، أصبح هيكل «خصماً»، إن لم يكن «عدواً» للدولة، كما قدمته ملفات صحافية.
هيكل يبدو أنه يحب صورته الجديدة المنفلته خارج الحسابات الموزونة. لم يكن يوماً في صورة معارض النظام، ولم ينتظم في كتابة خارج صحف الدولة. لم يفكّر في أن يكون كاتباً منتمياً لغير الدولة. لكنه بعد اعتزال الكتابة، قرر أن يترك نفسه قليلاً لمزاج النقد الحريف للدولة في عهد حسني مبارك. انجرف «الأستاذ» لغواية الصحافة المشاغبة التي صنعها تلامذة لم يمروا بمدرسته وهو «المتحفظ» يخرج بين الحين والآخر كأنه في فسحة مع «أبناء» ضالّين عن الدولة.
روبرت فيسك نشر قبل أشهر دردشة مع هيكل أثارت زوابع من جنود مبارك في الصحافة، لأن هيكل نقد الرئيس كما لم ينقده من قبل. جنود مبارك ركّزوا على التناقض في شخصيّة هيكل بين الانتماء إلى نظام عبد الناصر المولع بالاشتراكية وحماية الفقراء من الأشرار الرأسماليين، وبين تدخين سيجار «يكفي لإطعام عائلة شهراً كاملاً».
هيكل يضع نفسه في قلب الاستقطاب العنيف المشتعل الآن بين الأغنياء والفقراء... بين الثوريين والمحافظين... بين الحكومة والشعب. ويطل بحسرة على بخار الدولة التي شارك في صناعتها وكانت طوال الوقت نموذجه الفاتن. ورغم أنه لم يكن «ناصرياً» في السياسة، إلا أن نموذج الدولة الناصرية كان مصدر الإلهام الكبير.
هيكل كان مستشار جمال عبد الناصر. البعض يعدّه «شريكاً» في السلطة. لكنها مبالغة لواقع يمكن أن نرى فيها خصوصية حكم زعيم يعتمد على الكاريزما السياسية ويقود الشعب بشرعية الثورة ويضع البلد كله على خط النار. الزعيم الملهم يحتاج دائماً إلى صانع الأفكار ومهندس العمليات. يحتاج إلى صحافي موهوب في صناعة صورة للنظام. هيكل هو صانع الصور السياسية. هذه هي مهارته الأولى والهامة التي احتاج إليها أنور السادات في بداية عهده، حين مهّد له هيكل الجسر إلى السيطرة الكاملة على السلطة في صراعه مع مجموعة موظفين في الدولة الناصرية سمتهم أجهزة الإعلام وقتها «مراكز القوى».
هيكل كان مهندس خطة السادات للاستيلاء على الحكم، التي سمّيت أيضاً «ثورة التصحيح». لكن السادات تخلص من هيكل بطريقة مهينة وجعله يقرأ خبر إبعاده عن «الأهرام» في الصحف مثل ملايين القراء.
في الحالتين كان هيكل ابن الدولة أو خبيرها الكلاسيكي. تجاوز دور «الصحافي العادي» إلى مهمة حامل الرسائل إلى الشعب والمشارك في صناعة عقل النظام. وتمكّن بخريطة علاقاته الواسعة من صنع مكانة له أسهم فيها تاريخه الصحافي والسياسي، وزاد عليها بانشغاله الدائم بتقنيات الصحافة.
ورغم أنه حُرم وثائق عصور ما بعد عبد الناصر، إلا أن زياراته الجديدة للتاريخ حجزت له مكاناً متميزاً في عالم الصحافة، وإن لم يحصل على «دور» في سياسة مبارك. هل كان هيكل ينتظر موقع المستشار لنظام مبارك؟ أم كان يكفيه دور «الحكيم» الذي يدلي من بعيد باستشارات حول مسارات الدولة؟
إجابات هذه الأسئلة تنتمي غالباً إلى خيال سياسي مشغول برغبات هيكل التي لم يكشف عنها بالطبع. لكن يبقى مؤشر واحد يقول إن شخصاً بذكاء هيكل لم يكن يتوقع لا دور المستشار ولا الحكيم في نظام بلا مستشار ولا كهنة كبار. مجرد أتباع تتضاءل خبراتهم وكفاءاتهم كلما تقدم النظام في العمر.
هيكل ارستقراطي عرف السياسة من كواليس الحكم وقصوره، إلا أن عينه على الشارع. يداعب الحنين إلى زمن عبد الناصر عندما كانت مصر دولة كبيرة، صانعة أخبار، ولها هيبتها.
هيكل لم يُخفِ الأسى وهو يتكلم عن بخار الدولة، لكن هل هي الدولة التي شارك في تصميمها مع عبد الناصر؟ أم الدولة التي شارك في اقتناصها مع السادات؟ أم الدولة التي استبشر خيراً بقدوم مبارك ليكون نورها الساطع؟ هل هي دولة واحدة يتوارثها غريبو الأطوار؟ وهل البخار المتصاعد منها بخار نهاية أم بداية جديدة مع وريث جديد أكثر نزقاً؟ هل الأمر سيكون أجمل إذا جاء من استطاع تكثيف بخار الدولة؟ أم عندما تخرج مصر من أسر شبحه الكبير وتبحث عن نموذج جديد... جديد تماماً؟.

وائل...