غزة | بدت حالة القلق ظاهرة على وجوه الحاضرين في قاعة جمعية رجال الأعمال الفلسطينيين الفسيحة. صورة لعضو مجلس إدارة الجمعية، التاجر ـ المعتقل خالد لبد، وقربها يقف علي الحايك، الذي يشغل منصب رئيس الجمعية، إذ تتوالى الاتصالات على هاتفه، لتفيده آخر الأخبار باعتقال ناجي شحدة شراب، أحد أكبر تجار غزة ممن يعملون في مجال شحن البضائع من مختلف دول العالم، عبر ميناء أسدود في الأراضي المحتلة، ومنه إلى معبر كرم أبو سالم، المنفذ الاقتصادي الوحيد بين القطاع وإسرائيل.
شراب هو المعتقل الأخير من تسعة تجار اعتقلتهم سلطات الاحتلال، منذ بداية العام الجاري، وهم آتون عبر معبر بيت حانون «إيرز» رغم حصولهم على تصاريح للعبور إلى الضفة المحتلة. وهم وفق الكشف الذي زوّدتنا به جمعية رجال الأعمال: خالد لبد، وحسام نور الدين، وسامي شحيبر، وأكرم ياسين، وحسام الشرافي، وعبد الكريم شبير، ورياض المشهراوي، وحامد حبوش، واللافت أنهم جميعا من أبرز تجار غزة الذين يتكرر ترددهم من المعبر وإليه.
تنوعت مجالات تجارة المعتقلين بين الأجهزة الكهربائية ومواد البناء والتنظيف

وليس اختياراً أن يتنقل التجار عبر «إيرز»، الذي يديره الاحتلال، فالخيارات الاقتصادية مكبلة بتبعيتها الكاملة للجانب الإسرائيلي بحكم بروتوكول باريس (الملحق الاقتصادي باتفاقية أوسلو) الذي يقضي بمرور البضائع إلى المدن الفلسطينية من خلال المعابر الإسرائيلية.
وبرغم أن الحركة الاقتصادية عاشت سنوات استثنائية في العلاقة الاقتصادية مع مصر، عبر أكثر من 1000 نفق كانت تربط غزة بشبه جزيرة سيناء، فإن عصر الاستثناء انتهى بنهاية حكم الإخوان المسلمين في مصر، ليعود الوضع الاقتصادي الفلسطيني إلى الرتابة السابقة، مع قيود أشد على مختلف البضائع الموردة، إذ يقتصر الاستيراد من الأراضي المحتلة، الآن، على المواد الاستهلاكية الضرورية، فيما يمنع إدخال المئات من الأصناف والمواد الخام الصناعية لمبررات تدّعي إسرائيل أنها أمنية، وفي المقابل كانت تصدر بعض الزهور والتوت البري من غزة إلى أوروبا، وأخيرا شحنات من الأسماك إلى الضفة.
وفقاً لهذه المعطيات يجد التجار أنفسهم مضطرين إلى العمل ضمن الإطار الذي يسمح لهم باستمرارية التنقل السليم عبر الجانب الإسرائيلي، ما يفرض عليهم الابتعاد عن النشاطات السياسية والوطنية. وتشير معلومات حصلنا عليها من دائرة الشؤون المدنية، إلى التزام التجار المعتقلين ما يمكن تسميتها «قواعد السلامة الأمنية في التعامل مع الجانب الإسرائيلي»، إذ تكرر، مثلاً، تنقل التاجر خالد لبد (المعتقل منذ أكثر من عشرين يوماً) عبر المعبر، حتى خلال الحرب الأخيرة، الأمر الذي يرى فيه رئيس الجمعية، علي الحايك، نفيا للذرائع التي يمكن أن يتخذها الاحتلال لاعتقال لبد وغيره.
كل ما لدى الحايك أن هناك احتمالا لوجود «وشايات كيدية» مصدرها التجار الإسرائيليون، قد تكون السبب في الإيقاع بالتجار الفلسطينيين عبر خديعة ما، إذ إنه «من السهل أن يمارس هؤلاء سبل التلفيق والتدبيس عبر وضع أحد الأصناف الممنوعة من الاستيراد في البضائع الخاصة بمن يريدون من التجار، وخصوصاً أن من يتولى النقل والشحن والتوريد هم موظفو شركات إسرائيلية».
وعن أسباب لجوء التجار الإسرائيليين إلى مثل هذا الأسلوب، يفيد أحد التجار، رافضا ذكر اسمه، أن كثرة الطلب على بضائع الشركات العالمية الأفضل من نظيرتها الإسرائيلية قد تكون أحد أسباب الوشاية والكيد. وللتأكد من كون هذه الفرضية أصدق من الأنباء التي أشيعت عن كون الاعتقال ناجما عن «تجاوزات أمنية»، يشرح لنا تاجر آخر كيفية تعاملهم مع الإسرائيلي.
هذا التاجر الغزي عمل في مجال توريد الأجهزة الكهربائية ومعدات التصوير والإنتاج الفني، مشيرا إلى أنه في إحدى المرات صودرت كمية كبيرة من أجهزته، بعدما ادعت وحدات التفتيش والسلامة الأمنية في ميناء اسدود أنها عثرت على مواد ممنوعة داخل بضائعه، لكنه يقول: «ليس من المنطق أن أضحي ببضاعة ثمنها مئات الآلاف من الدولارات من أجل تهريب كمية صغيرة من أسياخ اللّحام التي تمنع إسرائيل استيرادها».
ما كان بادياً لنا أثناء تتبع النشاطات التجارية المختلفة للتجار المعتقلين، هو التنوع بين تجارة الأجهزة الكهربائية ومواد البناء والمواد الغذائية ومواد التنظيف، وما يجمع بينهم حجم التجارة الكبير الذي يديرونه. وأمام حالة الغموض في أسباب الاعتقال، يلاحظ أن المعتقلين يمثلون أوتاد التوريد التجاري للقطاع، الأمر الذي حذا بالغرفة التجارية الفلسطينية إلى إعلان أن الهدف الإسرائيلي من تلك الممارسات هو «تضييق الخناق على غزة بطريقة غير مباشرة». ووفق تقدير الخبير الاقتصادي، ماهر الطباع، فإن الطريقة الإسرائيلية الجديدة تعمد إلى ضرب الاقتصاد عبر التضييق على التجار ونشر هواجس الاعتقال بينهم، الأمر الذي سيحد مستوى حركتهم ونشاطهم، ويطبق الحصار كليا على القطاع.
وعن إمكانية تجاوز التجار المعتقلين لما هو مسموح به استيراده، يؤكد علي الحايك أن جميع البضائع الموردة تخضع لقدر كبير من الرقابة والتفتيش من الجانب الإسرائيلي، قائلا: «اعتقال التجار بهذه الطريقة المذلة يدل على مخطط إسرائيلي»، لكن مصدرا مطلعا في دائرة الشؤون المدنية، يفيد بأن الطريقة التي اعتقل فيها التجار التسعة مريبة، إذ يلاحظ وجود فارق زمني كبير بين اختفاء التجار وإعلان اعتقالهم. وعن الدور الذي يمكن أن تؤديه «الشؤون المدنية»، يوضح المصدر أن إسرائيل لا تقدم أي معلومات ولا تبدي استعدادها للتعاون، الأمر الذي يوجب على المنظمات الحقوقية التحرك لتوكيل محامين من أجل الدفاع عن المعتقلين.