عبد الحليم فضل اللهيتصدر تنظيم قطاع الاتصالات قائمة التحديات المطروحة أمام الحكومة، وهذا استئناف لجدل بدأ قبل سنوات عدة، ولم يفض إلى نتيجة بعد، رغم دخول المؤسسات الدولية طرفاً فيه، وربطها بين انسياب المساعدات الخارجية إلى لبنان وتطبيقه برنامجاً غير متقن للخصخصة.
وفي واقع الحال، لا يعاني القطاع أزمة بنيوية، ولا تبدو عمارته معرضة للانهيار، حتى يتدافع قاطنوها على الأبواب أو يلقوا بأنفسهم من النوافذ، فهو لا يرتّب أعباءً على الدولة بقدر ما يتيحه من مكاسب، ويقدم خدمة مستمرة وإن كانت مشوبة بالعيوب، كما أنّه فعال نسبياً، لكنه معرض للتآكل البطيء في ظروف سياسية وإدارية سيئة.
إن دور الحكومة في تنظيم قطاع الاتصالات وتعزيز المنافسة داخله، هو أكبر من دور السوق، فلدى وزارة الاتصالات والهيئة الناظمة ما يكفي من الصلاحيات للقيام بذلك، في وقت لا يبدو لمصطلح «تحرير القطاع» معنى في سوق صغيرة لا تتعدى نسبة الاختراق فيها 30% من المقيمين... إلا أن وضع إطار عمل للقطاع يقتضي الرد على الأسئلة التالية:
أولاً: ما الهدف من التنظيم؟ هل هو تعزيز المنافسة؟ أم تأمين تمويل كافٍ لردم فجوة الاستثمار التي اتسعت في الأعوام الخمسة الماضية؟ أم الهدف بكل بساطة هو المساهمة في التثبيت المالي وحل مشكلة الدين العام؟ بعبارة أخرى، ما هو دور الخصخصة في تحقيق الأهداف الرسمية التي وضعتها الحكومة لما أسمته سياسة الاتصالات، ومن بينها: تعزيز مجتمع المعلومات وتنميته، تشييد بنية تحتية منافسة هي الأفضل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمساهمة في دعم برنامج التصحيح المالي.
إن تعزيز المنافسة وزيادة الفعالية، وتحقيق أهداف سياسة الاتصالات عموماً، لا ترتبط بملكية القطاع بل هي نتيجة لأداء وزارة الاتصالات والهيئة الناظمة في مجالي تقييد التصرفات الاحتكارية العامة والخاصة، وإلزام المشغلين بمعايير محددة للجودة حتى لو بقيت الشبكات في يد للدولة، وهذا ما يجعل مبررات الخصخصة محصورة في أمرين: تأمين دفق مالي فوري كبير الحجم يساهم في تقليص الدين العام والحدّ من تنامي كلفته، والحصول على استثمارات كافية لإدخال تقنيات جديدة (الجيل الثالث)، وتوسيع شبكة الألياف الضوئية... فالأخذ بأولوية الهدف المالي يعفي الحكومة من نقاش بلا طائل، ويتيح لها سياسة واضحة، فكلما كانت الحصيلة المالية مجزية تقدمت فرضية البيع، وكلما تدنت تقدمت الفرضيات الأخرى.
ثانياً: هناك خيارات عدة لتنظيم القطاع، فأيها الأفضل: بقاء وضع الملكية على حاله مع تعديل عقود الإدارة؟ أم بيع رخصتي الخلوي بنسبة 90% وخصخصة ما لا يقل عن 40% من الهاتف الثابت كما ترغب الحكومة؟ أم توزيع الملكية بين ثلاثة أطراف: الشركاء الاستراتيجيون، الجمهور والمؤسسات العامة (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مثلاً)، والدولة؟ وهذا الخيار الأخير يحظى بأفضلية لكونه: 1ـــ يوسع قاعدة المستفيدين من عمليات الخصخصة ويمنعها من أن تكون آلية إعادة توزيع عكسية للمداخيل والثروة 2ـــ يفسح في المجال أمام الدولة للحفاظ على حد معين من الإيرادات 3ـــ يضمن أن تظل غالبية أسهم القطاع في حوزة أطراف محليين.
ثالثاً: كيف تقوّم الشبكات المطروحة للبيع؟ وما هي الحصيلة المتوقعة؟ لو اعتمدنا في التقويم valuation نموذج التدفقات الصافية المخصومةdiscounted cash flow ، فسنواجه مشكلة تقدير العائدات الصافية للقطاع، ومع أنّ إيراداته الإجمالية معروفة (وصلت في العام الماضي إلى 1337 مليون دولار من بينها حوالى 970 مليون دولار للخلوي)، فليس هناك تقديرات رسمية للعائدات الصافية الفعلية، إذ يحددها المعنيون بحوالى 530 مليوناً فقط للشبكتين، وهذا التقدير المتدني ناتج من المبالغة في تقدير الحسومات الإضافية (الضرائب، تحويلات التخابر الخارجي، الإهلاك، والإدارة). وقد أدى الخفض، المتعمد ربما، للعائدات الصافية، إلى خفض توقعات المؤسسات الدولية لعوائد البيع إلى أقل من 6 مليارات دولار للشبكتين (صندوق النقد الدولي، سيتي غروب، ج.ب. مورغان، كريدي سويس) بينما التقديرات المعتدلة المستندة إما إلى تقويم الأصول أو إلى احتساب دقيق أكثر للعائدات الصافية (حوالى 750 مليون دولار) فتسمح برفع الحصيلة إلى أكثر من 12 مليار دولار.
رابعاً: ما هو تأثير البيع على أوضاع الخزينة العامة؟ ففي عام 2007 مثلت عوائد القطاع ما يوازي ربع إيرادات الموازنة، وساهمت بتغطية 40% من خدمة الدين. وهذا ما يجعل جدوى الخصخصة محكوماً للمقارنة ما بين الوفر الناجم عن إطفاء جزء من الدين من جهة، ونقص الإيرادات الناتج من البيع من جهة ثانية، فلو افترضنا أن حصيلة البيع تطابقت مع التوقعات شبه الرسمية (ما بين 5 و6 مليارات لـ90% من الهاتف النقال و40% من الشبكة الأرضية)، فإنّ ذلك يحرم الخزينة دفعة واحدة من أكثر من 950 مليون دولار سنوياً، في مقابل خفض تدريجي لخدمة الدين العام يصل بعد ثلاث سنوات إلى 400 مليون دولار، وهذا يدفع للقول إن تنظيم القطاع على نحو يضمن مصالح الخزينة ويساهم في استيعاب مشكلة المديونية، يفترض بقاء الدولة شريكاً قوياً، من خلال إمساكها بحوالى 50% من أسهم القطاع.
وبانتظار الوصول إلى توافق بشأن سبل «تنظيم» القطاع أو «تحريره»، بوسع الحكومة البدء بإجراءات فورية لتحسين الخدمات وخفض الأسعار وزيادة التوظيفات، وفي الوقت نفسه الإعداد باحتراس لمنح التراخيص، مع مراعاة أن لا تصبح العملية برمتها غطاءً لنقل الملكية من الداخل إلى الخارج، أو أن تجري خارج سياق شامل للإصلاح ومعالجة الأزمة.