محمد زبيبسيتلقّى لبنان في هذا العام أكثر من 6 مليارات دولار كتحويلات مالية من اللبنانيين العاملين في الخارج، وفقاً لما أعلنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في منتدى خاص عن الصيرفة الإسلامية استضافته بيروت منذ أيام، وهذه التحويلات، إذا صحّت التوقّعات في شأن قيمتها، ستساوي نسبة عالية جداً تصل إلى ربع الناتج المحلي الإجمالي تقريباً، وعلى افتراض أن عدد المقيمين في لبنان يبلغ حوالى 4 ملايين نسمة، فإن حصّة الفرد من هذه التحويلات ستبلغ 1500 دولار تقريباً، وهي من القيم الأعلى على مستوى العالم.
وغالباً ما يجري تناول هذه المؤشّرات من باب «المفاخرة»، انطلاقاً من قناعة لدى أكثرية الطبقة السياسية بأن سر صمود النموذج اللبناني «العجائبي» يكمن في حجم هذه التحويلات الهائل الذي يُضخ سنوياً في الشرايين المحلية «المتصلّبة»، إلى جانب «المال السياسي» والقروض الخارجية وتدفقات الودائع وتوظيفات الخليجيين، وكلها عوامل تمنع الانهيار حتى الآن.
فلبنان، بحسب كتاب جديد صدر عن البنك الدولي بعنوان «حقائق عن الهجرة والتحويلات للعام 2008»، صدّر حتى عام 2006 نحو 17 في المئة من سكّانه، 29.7 في المئة منهم حصلوا على التعليم العالي، وهو يحتل المرتبة الـ16 بين بلدان العالم على لائحة أكبر البلدان المتلقّية للتحويلات (5.5 مليارات دولار عام 2007)، إلا أنه يتقدّم إلى المرتبة الثامنة عالمياً عند قياس حجم هذه التحويلات إلى الناتج المحلي الإجمالي (23 % عام 2007)، وتأتي بعد دول مثل طاجيكستان، مولدوفيا، تونغا، قيرغيزستان، هندوراس، ليسوتو، وغيانا، وهي دول فقيرة وتعاني تراجعاً كبيراً في مؤشراتها التنموية... والمفارقة أن لبنان يتميز عن هذه الدول بأنه مرسل للتحويلات أيضاً (4.1 مليارات دولار)، وهو يحتل المرتبة الـ14 عالمياً لجهة القيمة، ويتقدّم إلى المرتبة الثانية عالمياً لجهة نسبة التحويلات الخارجة إلى الناتج المحلي الإجمالي (18 %)، إلا أن موقع لبنان بين الدول المرسلة للتحويلات يأتي بعد بلدان غنيّة أو صناعية، على عكس موقعه بين البلدان المتلقّية للتحويلات، إذ إنه يأتي بعد الولايات المتحدة، السعودية، روسيا، إسبانيا، إيطاليا، لوكسمبورغ، هولندا، ماليزيا، بريطانيا، فرنسا، وكوريا...
هذه المؤشرات تجعل من لبنان نموذجاً مثالياً للنتائج والخلاصات التي توصّل إليها خبراء من صندوق النقد الدولي تدحض مقولة «إن تحويلات العاملين في الخارج نعمة إنقاذية للمقيمين في الداخل»، إذ اكتشف هؤلاء في دراسة جديدة صدرت عن الصندوق أن التحويلات المالية تشجّع في الواقع الفساد وعدم الفعالية من جانب الحكومة.
ففي تحليل شمل 11 بلداً بين 1990 و2000، اكتشف الباحثون أن المستويات العالية من التحويلات تؤدي في معظم الأحيان إلى مزيد من الفساد والسياسات الاقتصادية غير المسؤولة. بعبارة أخرى، المسؤولون في البلدان التي تتلقّى الكثير من التحويلات المالية غالباً ما ينجون بفعلتهم عندما يفشلون في تأمين الخدمات الأساسية، مما يطلق يدهم لتحويل مزيد من الموارد لأغراضهم الخاصة، ويشرح رالف شامي، وهو رئيس قسم في صندوق النقد الدولي شارك في وضع الدراسة المذكورة، أنه عندما تكون التحويلات المالية مرتفعة يكون «لدى المواطنين حافز أقل للمطالبة بالإصلاحات». وبما أن الحكومة تفترض أن المواطنين الذين يتلقون المساعدات من الخارج يتحولون نحو القطاع الخاص للحصول على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، لا يواجه المسؤولون ضغوطاً كبيرة للتغيير. ويعلق شامي على ذلك بأن «لسان حال الحكومة يقول: أعرف أنكم تحصلون على المال، فما هو حافزي لتصحيح الوضع؟».
لكن ليس الجميع مقتنعاً باستنتاجات الدراسة. إذ يرى ديليب راثا، الخبير في التحويلات في البنك الدولي «أنه على الرغم من أن خطر الاعتماد على التحويلات موجود، يجب وضع الأمور في سياقها الصحيح وإدراك أن الإيجابيات تقضي كلياً على السلبيات». لكن هذا الكلام الذي أوردته مجلة «foreign policy» الشهيرة، يتناقض مع خلاصة دراسة صندوق النقد الدولي، ومفادها «إذا كان القليل من السيولة الإضافية يساعد عائلة على تخطي المراحل الصعبة، فهو يشتري أيضاً الوقت للحكومة الفاسدة كي تجمد الإصلاحات الضرورية لتجاوز مراحل الفشل».
انطلاقاً من هذه الخلاصة، يمكن النظر الى الواقع اللبناني حيث يحتل لبنان مرتبة متقدّمة أيضاً على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، فالحكومة التي راكمت مديونية «قياسية وتاريخية» بحسب توصيف صندوق النقد الدولي، فشلت في تأمين الخدمات الأساسية للمقيمين (الصحّة والكهرباء والمياه والصرف الصحي... نماذج فاقعة)، وفشلت في إعادة التوزيع المحلية إذ إن نصف المقيمين مسؤولون عن 20 % فقط من فاتورة الاستهلاك الضخمة، فيما أغنى 20 % من اللبنانيين مسؤولون عن نصف هذه الفاتورة.