عبد الحليم فضل اللهلا يشبه البيان الوزاري البيانات الوزارية السابقة، فهو حصيلة تسويات صعبة، فرضتها تحولات في موازين القوى أكثر مما أملتها قواسم مشتركة، وقد جاء النص مفصلاً ليحاول استيعاب التباين بين طرفين تفصلهما هوّة عميقة، ولكل منهما نهجه وأمثولاته وأهدافه. ولم تقتصر التسويات على القضايا الوطنية المعروفة، بل شملت التوجهات العامة للسياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، التي جاءت مسهبة واقتطعت نصف البيان. ومع أنّ السياق العام للبيان ظلَّ أميناً للرؤية التقليدية (الموصوفة خطأً بأنها ليبرالية)، فإنّ بنوده حفلت بعناصر جديدة، وبتعبيرات غير مألوفة في خطاب السلطة، بتأثير من قوة الجذب السياسي الناشئ عن الصراع المحتدم منذ ثلاث سنوات. ويمكن القول بأنّ ظلال المساومة الشاقة التي حصلت في الشأن السياسي العام، امتدت إلى الجوانب الأخرى، فاعترفت السلطة، ولو بصورة غير مباشرة، بأنّ جوهر المشكلة الاقتصادية لا يكمن في حجم الدين وكلفته، بل في الأسباب العميقة التي أدّت إلى تفاقمه، وأقرّت بأهمية تشجيع النمو والاستقرار الاقتصاديين على قاعدة تشجيع القطاعات الإنتاجية وتحقيق التنمية المستدامة المتوازنة. كما حمل البيان تعهدات والتزامات من شأن تطبيقها وضع الدولة في مكان ما بين الدولة الحارسة ودولة الرعاية، كالتعهد بتعزيز الحماية الاجتماعية وإقرار قانون ضمان الشيخوخة، وخفض التفاوت المناطقي في مؤشرات التنمية، و«تأمين تغطية صحية رعائية واستشفائية لكل المواطنين غير المضمونين، من خلال نظام صحي شامل ومتوازن».
في البيان إذاً ملامح جديدة، تعبر عنها التوجهات التي تضمنتها فقراته، مع أنها كانت طوال الفترة الماضية محل خلاف وجدل بين الحكومات الحريرية ومعارضيها، فبناء اقتصاد عصري صار محوره «التشجيع على وجود قطاعات إنتاجية»، وأصبحت التنمية المتوازنة والمستدامة، ركيزة إطلاق «عجلة النمو المستدام وزيادة القدرات الإنتاجية للاقتصاد اللبناني». ولهذا التحوّل النسبي أسبابه، المتمثلة خصوصاً في صعود القوى الاجتماعية داخل معادلات النظام والسلطة، وعجز المقاربة التي تبنتها السلطة طوال سنين عن تحقيق النمو والتقدم والاستقرار، والضغوط التضخمية العالمية التي ألزمت جميع الدول باتباع سياسات جديدة.
فقد فشلت السلطة في مهمة إعادة البناء التي كان مطلوباً منها وضع ركائز جديدة للاقتصاد الوطني ما بعد الحرب الأهلية، وفشلت أيضاً في مهمة الإصلاح التي كان هدفها توفير الشروط اللازمة للجم الأزمة وإيقاف مسارها التصاعدي في الوقت المناسب. وقد أدى إخفاق المهمتين إلى تعطيل مساري الإصلاح والبناء، لتحل مكانهما مهمة عاجلة هي الإنقاذ، وهذا الأمر يتطلب أكثر من غيره تدخلاً حثيثاً من الدولة، وسياسات متكاملة لا تمتّ بصلة إلى الرؤية التي حملتها حكومات ما بعد الطائف. ومن ناحية ثانية، تمسكت السلطة بمبدأ التثبيت النقدي كأساس للاستقرارين الاجتماعي والاقتصادي، واثقة بأنّ ما لديها من وسائل يكفي لمنع أي اضطراب في عمل السوق، ومتجاهلة أنها تعمل في إطار اقتصاد محلي هش ومدوّل، غير قادر على امتصاص الصدمات المفاجئة واستيعاب الأزمات المستوردة. أفضت التطورات النقدية والاقتصادية العالمية والارتفاع الهائل في أسعار المواد الأساسية إلى تقويض الرؤية النقدية هذه، لتدرك السلطة أن تحقيق الاستقرار العام وتثبيت التوازنات الكلية يتطلب استراتيجيات اجتماعية واقتصادية متكاملة، وليس فقط سياسات مالية ونقدية.
على أنّ السياق الجديد الذي تبناه البيان الوزاري، لا يعني أنّ مقاربة جديدة بدأت تتبلور، وأنّ جليد النظام الاقتصادي آخذ بالذوبان، وبوسعنا أن نتلمس وجود رؤيتين مختلفتين في ثنايا البيان تتقاطعان حيناً وتتباعدان أحياناً، حيث تركت المساومات والتسويات آثاراً واضحة على بنوده، إما على شكل صياغات عامة لا تلزم الحكومة ببرامج محددة، وإمّا على شكل تباينات وتناقضات بين بند وآخر. ومع أن الرؤية الاجتماعية/التنموية حققت خروقات على صعيدي القطاعات الإنتاجية، والحماية الاجتماعية، فقد بقيت الرؤية التقليدية الموروثة مهيمنة على النص الذي حفظ لها مبادئها الأساسية، وحملها في خلاصاته الأساسية، متمثلة في المقولات الآتية:
أولاً: ينحصر دور الدولة في النشاط الاقتصادي بتوفير مناخ عمل مناسب للقطاع الخاص، وليس لها أن تقدم مساهمات مباشرة، ماديةً وحتى تخطيطيّة. فلم يأت البيان على ذكر أي من البرامج التي أعدّتها الهيئات الحكومية وشبه الحكومية، في مجالات الزراعة والصناعة والسياحة ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة...
ثانياً: الموارد الخارجية المقترضة هي الأساس في تمويل احتياجات الاستثمار والنمو والإصلاح. وقد جاء في البيان على سبيل المثال لا الحصر «إنّ الحكومة ستعتمد في القسم الأكبر من الإنفاق الاستثماري المستقبلي على التمويل من مصادر خارجية على شكل قروض ميسرة»، ما يمهد لها الطلب من مجلس النواب إقرار قوانين جديدة للاستدانة من الخارج.
ثالثاً: الخصخصة تعني البيع الكامل، وهذه هي الرؤية التقليدية التي لا تفرض شروطاً على عملية تحويل الملكية، مثل الحفاظ على المصالح القومية للبلد، ولا تضع لها معايير محددة مثل تحرير القطاعات المنوي خصخصتها، ورفع فعالية أدائها وكفاءته.
حاول البيان الوزاري المزج بين رؤيتين، متبعاً منطق التسوية، ولئن كان الخروج على الرؤية الأحادية التي هيمنت على النظام منذ زمن طويل أمراً إيجابياً بحد ذاته، فإنه يهدد بالوصول إلى نظام هجين بمسارات متضاربة، فيما المطلوب طريق ثالث يتسم بالواقعية والطموح في آن، ويقف بين نموذج سائد ثبت فشله، وبديل تام ثبت أنه عصيّ على الميلاد.