Strong>أوفدها أبو جهاد إلى إسرائيل بعد اجتياح لبنان عام 1982 لتقصّي الحقائقعلى الطريق الممتدة بين بحيرة طبريا والجولان السوري المحتل، وتحديداً إلى جانب قرية طوبا الزنغرية العربية البدوية وجسر «بنات يعقوب»، توجد لافتة حديدية مهترئة، كتب عليها باللغتين العربية والعبرية: «ضحايا العدو»، ومن ورائها مساحة واسعة كان اسمها «مقبرة الأرقام»

حيفا ــ فراس خطيب
كانت مقبرة الأرقام، خلال تموز الماضي، جزءاً من الحدث في صفقة تبادل الأسرى الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله. لكن اكتشافها بقي طيّ الكتمان. لخروج مقبرة الأرقام إلى العلن للمرة الأولى قصة، أبطالها شبان عرب وصحافية أميركية، ومحرّكها الرجل الثاني في منظمة التحرير، الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد).
وبحسب الرواية التي تقصّت عنها «الأخبار»، فإنَّ الصحافية الأميركية، تمارا كونز، تمكّنت من كشف المقبرة بمساعدة شبان من قرية عرابة البطوف، الواقعة في الجليل الفلسطيني. أحد هؤلاء الشبان مَنَحَها «طرف الخيط» حين قال لها: «رأيتهم هناك، كانوا ينقلون الجثث بأكياس نايلون».
هذا كان الحديث الطاغي في قرية عرّابة خلال صفقة التبادل. الصدفة قادت أحد الشبان، الذي ينتمي لإحدى العائلات اليسارية الوطنية، إلى التاريخ، إلى ما قبل حرب لبنان الأولى، تلك الحرب التي خلّفت مئات الشهداء من أنصار الحركات الوطنية الفلسطينية واللبنانية، وجعلت العائلات الفلسطينية تبحث عن مصائر أبنائها المقاتلين الذين اختفت آثارهم خلال الحرب. هل هم في معتقل الخيام؟ أم أنَّهم في معتقل الجلمة أو عتليت على مقربة من مدينة حيفا. مليون سؤال من دون التوصل حتى إلى طرف خيط في حينه.
وبحسب القصة، فإنَّ رموز تلك الأحجية الإنسانية والسياسية بدأت تتفكك، بعد عام من الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. حينها، حلَّت الصحافية الأميركية ضيفة على إحدى العائلات اليسارية في عرابة. من تلك العائلة، استطاعت الصحافية أن تصير جزءاً من المشهد القروي، تتحدث العربية بطلاقة وتشارك في أفراح وأتراح القرية، ما ساعدها على الوصول إلى عائلات فلسطينية، قادتها إلى الكشف الصحافي الأكبر في تاريخها المهني.
ويروي الشاب، الذي كان قريباً من الصحافية الأميركية، لـ«الأخبار»، أنَّ أحد الذين تعرّفت إليهم الصحافية كان شاباً من قرية عرابة، ومتزوجاً من فتاة يعود أصلها إلى قرية طوبا الزنغرية البدوية. وكان قد سمع هذا الشخص بأنَّ الصحافية تبحث عن معلومات بشأن المفقودين.
المعلومات التي قالها الشاب كانت كالآتي: «إنَّ شاحنات عسكرية إسرائيلية تأتي إلى مقبرة مجاورة للقرية (طوبا) وتدفن جثثاً مغلّفة بالنايلون منذ سنوات. وإنَّ هذا الأمر قائم قبل حرب عام 82، لكن العمليات تواصلت بكثافة خلال الحرب وبعدها أيضاً». وبحسب الرواية، كان جزء كبير من أهالي قرية طوبا يعرفون مجريات القضية، لكن لا أحد منهم باح بها. منهم من خاف، ومنهم أيضاً من كان يخدم في الجيش الإسرائيلي وفضَّل الصمت.
أحد أفراد العائلة التي استضافت الصحافية، قال لـ«الأخبار»، «لقد قرَّرنا مساعدتها من منطلق واجبنا الوطني. اتجهنا بحسب الوصفة إلى المقبرة في الشمال. كانت الصورة مرعبة، شاحنات عسكرية وصلت إلى المقبرة وأحضرت جثثاً مغلّفة بالنايلون. كانت في المكان جرافات عملت بسرعة البرق على دفنها. المشهد كان محزناً ومؤثراً، حتى إن تمارا بكت، وصوَّرت وقائع الدفن. كانت عمليات الدفن مهينة». وتابع «كنا نذهب إلى هناك المرة تلو الأخرى، وصوّرنا ووثّقنا. كنا نبكي ونتأثر. لم نكن نعرف هوية الشهداء، لكننا كنا نرى أنهم يضعون الأرقام على كل قبر، وكان هناك حاخام يهودي».
رغم كل المحاولات لأخذ شهادة أحد سكان طوبا الزنغرية، فإن هذا الأمر كان مستحيلاً. الشيء المؤكد أن هذه المقبرة، ووفقاً لما قاله سكان القرية، من دون ذكر أسمائهم، كانت قائمة منذ عام 1975.

من هي تمارا؟

بعد جمع كل المعلومات والصور، عقدت الصحافية مؤتمراً صحافياً في تل أبيب، وأعلنت عن اكتشاف المقبرة في منطقة الجليل في جسر بنات يعقوب. صحيفة «الاتحاد» الحيفاوية، التي صدرت في ذلك الوقت، أي قبل 25 عاماً، كتبت على صفحتها الرئيسية العنوان التالي: «بفضل شجاعة ومثابرة صحافية أميركية: الكشف عن قبور جماعية لضحايا الحرب الفلسطينيين واللبنانيين خلال حرب عام 1982».
لكنَّ سؤالاً إضافياً لم يُسأل: من هي هذه الصحافية؟ ومن دفعها نحو هذا البحث المعقّد الذي استمر طويلاً؟ القضية بدأت تتبيّن بعد شهور من عودتها إلى الولايات المتحدة. وتبيّن أن تمارا لم تكن صحافية فحسب. إذ قال أحد أفراد العائلة: «تبيّن لنا في ما بعد، أنَّها كانت مبعوثة من منظمة التحرير الفلسطينية، وتحديداً من خليل الوزير (أبو جهاد)، لتقصّي الحقائق عن الضحايا والمفقودين، وعملت لمصلحة المنظمة».