Strong>مشيّعوه حُرموا إلقاء نظرة الوداع في المقاطعة: من أحقّ منّا به؟غادر «لاعب النرد»، تاركاً «أثر الفراشة» في رام الله، وسط تمني الكثيرين عودته تحت ألواح الصبر على تلك الرقعة الخضراء المعزولة بين عكا وصفد. إلا أنَّ طقوس الموت لم تمنح الإرادة متسعاً. فلا فرق من أي باب يعود الكبير إلى التاريخ: ألا يكفي أن يوارى درويش الثرى إلى جانب أبو عمار لتكون رام الله في قلب القضية؟

رام الله ــ فراس خطيب
هكذا، مثل قصيدته، تسلل محمود درويش نحو نومه المشتهى. مضى وعشرات الآلاف من ورائه يمشون على وقع القصيدة. عشرات الآلاف في مسيرة الشاعر. الموكب الجنائزي يسير بهدوء جنوباً. الطقس يعزي السائرين في موت شاعرهم. كان حاراً. لكنَّ لهيبه لا يشبه لهيب آب المعهود. الحضور آتٍ من كل مكان في فلسطين التاريخية، من قريته البروة المهجَّرة، ومن الجديدة المتعبة التي هجِّر إليها، من مدينته حيفا التي عاش فيها ردحاً ثلاثي الأبعاد بين السجن والإقامة الجبرية والانطلاقة الشعرية. كلهم جاؤوا لوداع شاعرٍ لسطوره فضل يذكرونه. أرادوا المشاركة في كل شيء، لكن المسيرة «المنظمة» أبقتهم خارج المقاطعة لانتظار «الموكب العسكري».
«هل الدبلوماسيون أحق منّا بدرويش؟» قالت فتاة فلسطينية غاضبة، حين كانت تلف على نفسها كوفية فلسطينية، متسائلة: «لماذا لم يدخلونا؟ يطلبون مني الهوية؟». وقال آخر: «قرّاؤه من المخيمات أحق بالنظرة الأخيرة».
في تلك المسيرة، يتحدث شاب من مخيم «العزة» عن علاقته بالشاعر الراحل: «كنّا ممنوعين في الانتفاضة الثانية من تعليق صورته. كان الجندي يسألني: من هذا؟ أقول له هذا عمي والجنود الجاهلون، لم ينتبهوا، إلى حين اكتشاف أحد الضباط أنه درويش ومزّق الصورة».
القصص لا تنتهي، لكل واحدة علاقة تجمعه بطريقة ما مع الشاعر الذي جعل من سطوره أغنية لكل من فتّش عنها. على كل شجرة ولافتة ومبنى علقت صورته. الحضور المتنوع كان مجمِعاً على شخص الشاعر: نساء وشباب وأطفال يحملون صورته.
الناس يصعدون إلى تلك التلة، حيث القصر الثقافي، وحيث لافتة كبيرة تقول: «محمود درويش في حضرة الغياب». في الأفق كان مارسيل خليفة يغني «سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح». ومن بعدها، بدأ صوت درويش يصدح. هكذا تجلى الشاعر مثل قصائده الحديثه، يستقبل مودعيه بصوته المنبثق من مكان ما على التلة. لكن لم يمنح فرصة للوداع. كان الدفن «سريعاً تماماً، كخبر وفاته».
كان التراب المنهال على جثمانه مشهداً قاسياً للمحبين: هناك من حبس دمعته، وهناك من ذرفها علناً. وهناك من تأمل المشهد الأخير. خبر الموت أصبح واقعاً. درويش يوارى في الثرى برام الله.
الدفن ينتهي، وصوت درويش لا يزال يجعل من الأفق مساحة للتأمل. الناس يعودون ببطء من حيث أتوا. هكذا، يغادر درويش هذه الرقعة الجريحة بعد المعارك الأخيرة. يغادر قبل أن تنتهي المعارك الداخلية والخارجية. ينتهي مثل قصائده التي تفتح عند نقطة نهايتها ملايين الأسئلة.

«الخلافات» حاضرة
الطقوس بدأت «رئاسية»: مروحية أردنية تكسر بضجيجها صمت المقاطعة، تحط وزرها على تلك الساحة. من هناك، تحت إيقاع الأوركسترا، يسير نعش درويش، ووراءه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلى أن دخل قاعة التشريفات، التي كانت مفتوحة لأقارب الفقيد وبعض الدبلوماسيين فقط.
قال عباس، في الكلمة الأولى، إن «فراق درويش كان يوماً فارقاً بتاريخ الثقافة الفلسطينية والإنسانية، عندما ترجل ذاك الفارس العنيد عن صهوة الشعر والأدب، ليترك فينا شمساً لا تغيب، ونهراً لا ينضب، من عطاء الخير والبشائر والأمل».
وتلا الشاعر سميح القاسم، رفيق دربه منذ أيام القصائد الأولى، كلمة آل الفقيد. قال عن درويش: «أخي الذي لم تلده أمي» إنه «ما يدري جثمان في أي أرض يدفن» على خلفية عدم دفنه في مسقط رأسه في قرية البروة الجليلية المهجرة، مضيفاً أن «المستوطنين (الإسرائيليين) يصرون على تحويل مقبرة آبائك وأجدادك (في البروة) إلى حظيرة مواشٍ لمواشيهم المستوردة مثل تاريخهم».
وانتقد القاسم بشدة، خلال تأبينه درويش، الصراع الفلسطيني الداخلي، وقال إن «شهيد الغربة الشاعر معين بسيسو المدفون في غزة لا يستطيع عبور خط النار إلى رام الله، كما لا تستطيع أنت عبور خط النار إلى غزة والقدس قريبة بعيدة وغزة قريبة بعيدة. وإذا كانت غزة بفعل هؤلاء غير قادرة على الحلول في رام الله، ورام الله غير قادرة على التجسد في غزة، فمن أين لنا يا محمود أن تتجلى فلسطيني في فلسطين؟».
ولمّح أحمد درويش، شقيق الشاعر الراحل، إلى دفن شقيقه في رام الله، لا في الجليل، فقال وانفجر باكياً في آن واحد: «ها قد عاد إلى ثراكم، عاد أخوكم وصديقكم وزميلكم ورفيق دربكم إلى هذا المكان الرمز. عاد إليكم لغة وفكراً ونهجاً وتراباً». وأضاف: «من أحق منكم وفاءً لهذه الأمانة؟ ومن أحق من هذا المكان القريب من القدس، وجار مثوى القائد الرمز المرحوم ياسر عرفات؟».