مرّ يومان بعد المئة على بدء «انتفاضة القدس»، ويومان أيضاً على قمع الأجهزة الأمنية، التابعة للسلطة الفلسطينية، للمتظاهرين في حي البالوع في رام الله، وتحديداً بالقرب من مستوطنة «بيت إيل»، من دون محاسبة أو ردّ فعل رسمي. هكذا قررت أجهزة الأمن الفلسطينية أن لا مواجهات في تلك المنطقة مرة أخرى، فارتدى رجالها الزي المدني «البيجامات»، وهاجموا المتظاهرين بالهراوات، بمن فيهم من صحافيين ومسعفين، فيما صار «المربع الأمني» محرماً على الملثمين وراشقي الحجارة... والمصورين!
قبل نحو شهرين كانت «بيت إيل» وجهة ليس للمتظاهرين والناشطين فحسب، بل قبلة إعلامية «مهمة» للمسؤولين والقياديين الذين التزموا الحياد ــ على الأقل ــ منذ بدء الانتفاضة. اليوم تنضم نقطة التماس هذه إلى باقي المناطق الخاضعة «لسيادة» السلطة الفلسطينية؛ فرجال الأجهزة الأمنية كانوا في الصفوف الأمامية، ولكنهم كانوا يديرون ظهورهم للإسرائيلي، فيما عصيّهم تنهمر على المتظاهرين، بل تجاوزوا ذلك واستخدموا أدوات حادة، كما أفاد أكثر من شاهد عيان؛ شتموا الشباب وهدّدوهم بالاعتقال ثم صادروا ما استطاعوا من الكاميرات والهواتف المحمولة التي صوّرت الاعتداء.
جهاد بركات، وهو مراسل قناة «فلسطين اليوم»، أحد الصحافيين الذين اعتدى الأمن عليهم، يقول: «نزلت وزميلي المصور جميل سلهب من مركبتنا بالقرب من دوار المستحضرات الطبية بحدود الساعة 12:30 الجمعة الماضي. كانت مسيرة القوى تتقدم إلى المدخل الشمالي للبيرة، وفي طريقهم جدار بشري من حرس الرئاسة. حدثت في البداية مشادات». ويضيف: «حينما وصلت الدوار، بدأ زميلي بأخذ لقطات لما يحدث. لم يمضِ سوى بضع دقائق حتى توجه ستة أشخاص بلباس مدني بسرعة وضربوا سلهب وأخذوا الكاميرا منه. حاولت القول لهم إنه لم يبلغنا أحد بمنع التصوير، ولكن اعتدي عليّ أيضاً». كذلك لفت إلى أنه حاول إبلاغ قناته عبر الهاتف بما جرى معه، ولكن أحد أفراد حرس الرئاسة بزيّ عسكري سحب منه هاتفه عنوة.
سجّل اعتداء على مسعفين كانوا يحاولون معالجة المتظاهرين والصحافيين

لم يطلق سراح بركات ومن معه من عدة وكالات وصحف إلا بعدما مسح الأمن محتوى كاميراتهم. لكن الصحافيين وعدداً من شهود العيان وثقوا حالات الاعتداء على المتظاهرين وسحل بعضهم على الأرض، ما اضطر الإسعاف إلى التدخل ونقل الإصابات. واللافت أن المسعفين أنفسهم لم يسلموا من الاعتداء؛ فالمسعف تامر كحلة هوجم خلال أداء مهمته الإنسانية متهَماً بتصوير الأحداث، وضربه أكثر من خمسة عناصر بأدوات حادة، ثم ركلوه وسحلوه داخل مكتب في سلطة النقد مباشرة بالقرب من المنطقة.
الأسير المحرر والقيادي في «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» عصمت منصور، كان من بين المتظاهرين أيضاً، وأكد أن لا أحد منهم تهجّم على رجال السلطة أو استفزّهم، بل إنهم أبلغوا بأن وفداً سيمر من المكان. رغم ذلك، «فوجئنا بخروج العشرات بزيّ مدني ومعهم هراوات أخذوا بدفع المتظاهرين وشتمهم ومطالبتهم بالعودة، وعندما استمر الحشد بالتقدم سحبوا العديد من المتظاهرين وضربوهم، وكنت أحدهم».
وبعدما استمر قمع المتظاهرين لنحو 40 دقيقة، تفرقت المسيرة، وانسحب رجال الأمن الذين كانوا يلبسون الزي المدني في مركبات حرس الرئاسة بصورة جماعية. ورغم أن مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة ضجّت بتناقل ما تبقّى من صور رافقها استهجان واستغراب وذم لما فعله حرس الرئيس، لم يصدر أي تعليق رسمي. حتى إن «نقابة الصحافيين» المقرّبة من السلطة، استنكرت اعتداء قوى الأمن على الصحافيين ومنعهم من أداء عملهم.
وإلى جانب الاستنكارات المتوالية من غالبية الفصائل في غزة، استنكرت «الجبهة الديموقراطية»، و«الجبهة الشعبية»، إضافة إلى «المبادرة الوطنية الفلسطينية»، و«منظمة الصاعقة، في الضفة، ما جرى، وصدر بيان مشترك في اليوم نفسه يستنكر «قمع أجهزة السلطة مسيرة سلمية عند حاجز بيت إيل»، ويدعو «السلطة وأجهزتها إلى حماية شعبنا واحترام تقاليده الوطنية».
وهذه ليست المرة الأولى التي تعتدي فيها الأجهزة الأمنية على المتظاهرين أو الصحافيين، فهي دوماً تعيق أداءهم مهماتهم وتمس حرياتهم الشخصية وكراماتهم. ففي الأسابيع الأخيرة من شهر أيلول الماضي، اعتدت الأجهزة الأمنية على طفل في تظاهرة في مدينة بيت لحم، وتلى ذلك تشكيل لجنة تحقيق ومحاسبة، ولكن غالبية هذه الاعتداءات تمر مرور الكرام.
وهذه المرة، جاءت ردود فعل الشارع الفلسطيني غاضبة جداً على ما جرى، خاصة أن «السلطة» صارت متهمة علناً بالسعي إلى إيقاف «انتفاضة القدس»، بل إن لسان حال الشارع يقول إن الحدث الأخير يلغي ما قبله من محاولات لامتصاص ما يجري، ويجعل الغفران أصعب كل يوم.