عبد الحليم فضل اللهتتصدّر المسألة الاقتصادية المشهد العام مجدّداً، لكن الأمل ضئيل في إمكان خوض نقاش مثمر بشأنها، فالمسائل الأساسية (مثل الخصخصة والدور الرعائي للدولة والسياسة النقدية..) وثيقة الصلة بعناصر الاشتباك السياسي، والجدل المحيط بها لم يمهد في السابق لخلاصات مفيدة، بل كانت مهمته أو نتيجته تغذية التوتر وزيادة حدّة الشقاق، ولئن كان الانتقال من عهد إلى عهد ومن حكومة إلى أخرى هو مناسبة للتفكير العميق وإعادة النظر، فقد فوّتتا من الطائف إلى الآن ثلاث فرص لتجديد الرؤية العامة للدولة (ثلاثة عهود)، وتسع فرص لتطوير السياسات العامة (تسع حكومات).
لا تتمثّل المشكلة فقط في استحواذ أقلية تنتهج الخطة نفسها في مقابل أكثرية قليلة الحظ، بل في ضياع الحدود والفوارق بين الاتجاهات المتقابلة والمناهج المختلفة، التي يتّفق أصحابها بسهولة على مسائل بالغة الأهمية مثل بيع الدولة لقطاعات مربحة أو إيقاف العمل بالروزنامة الزراعية أو زيادة حصة الديون الخارجية من مجموع الدين العام، ثم يتنازعون دون هوادة على مسائل أدنى رتبة، تتعلق إمّا بتوزيع الاستثمارات العامة على المناطق أو بتقرير ما إذا كانت نسب الضرائب غير المباشرة أو مستوى الزيادة في الأجور هي أعلى أو أقل من اللازم. لقد ولّد هذا التداخل شعوراً بأن معظم الفاعلين السياسيين ينتمون إلى مدرسة واحدة لكن يتمايز بعضهم عن بعض بالنزاهة والتعفّف ونظافة الكف، وعلى أهمية هذا التمايز فإنه لا يكفي لصناعة قدر اقتصادي جديد يراعي ما تسميه الأدبيات المعاصرة الأخلاق الاقتصادية ويتبع في الوقت نفسه نموذجاً للعدالة لا يتنافى مع الفعّاليّة والكفاءة.
وبوضوح أكبر، إنّ أيّ نقاش مثمر في شأن الأزمة أو الخيارات الأساسية، ينبغي أن يدور بين فريقين أو أكثر لدى كل منهما (أو منهم) ملامحه الواضحة، وانتماؤه المعلن، وبناؤه النظري المنسجم، وهذا ما حدث في معظم الدول التي مرت بأزمات عاصفة أو حطمتها الحروب. أما الطريقة الانتقائية التي تستحسن أشياء متنافرة وتحاول أن تجمع في سلة واحدة ثمار فصول متعددة، فلن تحقق عبوراً آمناً من الأزمة إلى ما بعدها ومن اقتصاد التدفقات إلى اقتصاد الإنتاج. فمثلاً يتبنّى بعض المعترضين على السياسات الحكومية مبدأ مكافحة الفساد أساساً لمشروعهم الاقتصادي، لكنه أساس غير كاف ما لم يكن جزءاً من نسق أوسع من المبادئ، يضمن التعامل مع مجمل أسباب الأزمة وجميع عناصر الوهن الاقتصادي، وهذا ينطبق أيضاً على مبدأي الإصلاح والمنافسة المتداولَين عند بعض قوى المعارضة، فمن الصعب توافر شروط قيامهما في ظلِّ تبنٍّ غير مشروط لنمط من الليبرالية أقل ما يقال فيه إنه يؤثّر في مناخ الثقة، إذ إنه يحبط قدرة الدولة على تقديم ضمانات كافية للأسواق الحرة والمساهمة في شراء المخاطر.
وعلى أي حال فقد كُتبت الهيمنة لنهج اقتصادي واحد طوال الفترة الماضية، ومن مظاهر هيمنته أنه امتلك مفاتيح النقاش الداخلي، لينتشر الآخرون حول طروحاته مؤيدين أو معارضين، وفيما اتسمت تصرفات أصحاب هذا النهج بالجرأة واللامبالاة (مثل الاستدانة بمعدلات فائدة مرتفعة جداً، والإخلال بالتوازن الضريبي، وإهمال قطاعات حيوية كقطاع النقل، واستئناف سياسات الإنماء اللامتوازن، والخصخصة من دون رقابة، ورعاية الاحتكارات...)، كانت ردود أفعال المعارضين لهم حذرة ومترددة، فلم يتمكّن هؤلاء من ترك بصماتهم على الأداء الاقتصادي العام أو إدخال تعديلات ملموسة تسمح بلجم تطرف المدرسة التقليدية التي عطّلت النمو وأطاحت فرص التنمية واستنزفت الخزينة العامة. ومن أسباب هذا الحضور الشاحب أن آراء المعارضين لم تنتظم في سياق واحد ولم تصدر عن رؤية متكاملة فيتاح لها التحول إلى نهج جديد يسعى إلى فرض بنوده على طاولة النقاش. ويمكن العثور على مبرّرات أخرى لهذه المفارقة، فحتى وقت قريب وفّر القابضون على القرار الاقتصادي دعماً قوياً لمشروعهم، مستفيدين من المظلّة السياسية التي كانت سائدة حتى الخروج السوري، ومستغلّين إلى أبعد حد انشغال قسم كبير من المجتمع اللبناني بمعركتَي التحرير والدفاع.
هذا الخلل لن يستمر طويلاً، بين رؤية مركزية طاغية، وهوامش ضعيفة تسبح في مدارات متفرقة، فمع وفود مكوّنات جديدة إلى السلطة بتنا في وضع أفضل وصار ممكناً توفير عناصر كافية للرؤية البديلة، التي يزيد من الطلب عليها: فشل مقاربة السلطة في تحقيق أي من أهدافها، وحدوث تطورات داخلية وخارجية غذّت الآمال بإمكان بناء الدولة على أسس جديدة، والانقسام السياسي الذي أوجد لأول مرة منذ زمن قاعدة سياسية وشعبية عريضة ومتنوعة ومتماسكة لرافضي الرؤية التقليدية في السياسة والاقتصاد.
من المفيد أخيراً إمعان النظر في الرأي التالي: هناك نموذج أصيب بالإخفاق، لكنه لا يزال إلى الآن قادراً على تعيين التوجّهات ووضع جدول أعمال النقاش المحلي، متسلّحاً بغياب البديل وانقسام حملة الآراء الأخرى. لكن تبدّل الظروف وتغيّر الأحوال سيتيح للشركاء الجدد في السلطة إن أحسنوا صنعاً بناء مسرحهم الخاص، والمضي قدماً نحو بناء خيار آخر جامع، مستعينين بقوة التضامن السياسي الذي ظهر في السنتين الماضيتين بين أطراف المعارضة، وبقليل من المرونة الايديولوجية يمكن هذه الأطراف أن تؤسّس لمشروع اقتصادي مشترك، يستمد إلهامه من المبادئ والأهداف التي تبنّاها كل طرف على حدة. ولئن حصل ذلك فسيتوافر لنا نموذج بأربعة أضلاع: العدالة، مكافحة الفساد، الإنتاجية والمنافسة، على أن يجري ذلك في إطار التمسك باستقلالية القرار الوطني، ورفض الأطروحات المتطرفة التي تحاول كف يد الدولة عن القيام بأقل مسؤولياتها.